كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
تشهد سوق النفط الخام تقلبات متزايدة تعكس حجم الضغوط التي تواجهها من عدة أطراف، ما بين إشارات هبوطية في السوق الأمريكية، وتصعيد جيوسياسي محتمل في الشرق الأوسط، وتوقعات متفائلة من منظمة أوبك. لذا أرى أن مزيج هذه العوامل المتضاربة يُحدث ما يُشبه “التذبذب الاستراتيجي” في أسعار النفط، حيث يصعب على المستثمرين والمتداولين تحديد اتجاه واضح للسوق في المدى القريب، رغم أن المؤشرات الأقرب تميل نحو الهبوط.
كما، لا يمكن إغفال الإشارات السلبية الصادرة من السوق الأمريكي، والتي تزايدت حدّتها خلال الأيام الماضية. فقد أظهرت بيانات بيكر هيوز تراجع عدد منصات النفط النشطة، وهي من المؤشرات المهمة التي تُقرأ عادة كبوصلة للعرض المستقبلي. وهذا التراجع، ولو كان طفيفًا، يشير إلى احتمال وجود ضعف في الجدوى الاقتصادية للإنتاج في بعض المناطق، أو إلى تراجع ثقة المنتجين بمستوى الطلب. وتزداد الصورة قتامة حين ننظر إلى أرقام المخزونات الأمريكية. فبدلًا من أن تنخفض كما توقعت الأسواق، ارتفعت، مما يؤكد أن الإنتاج ما زال يتجاوز الطلب، سواء بسبب زيادة الواردات أو ركود الاستهلاك المحلي. وهذه الزيادة وإن كانت طفيفة مقارنة بالأسبوع الماضي، إلا أنها كافية لإثارة القلق بشأن قدرة السوق الأمريكية على امتصاص الفائض، وبالتالي تُرسل إشارة هبوطية حادة للأسواق العالمية.
لكن هناك عنصر آخر لا يقل أهمية، بل ربما يُعتبر مفصليًا في المرحلة المقبلة، وهو التصعيد المحتمل في الشرق الأوسط، وتحديدًا ما يتعلق بالتقارير عن توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية. فهذه التقارير، تفتح بابًا واسعًا للتوقعات حول سيناريوهات محتملة، قد يُفضي بعضها إلى انفجار الوضع في المنطقة. وإذا تحققت هذه التهديدات، فإن الأسواق لن تتردد لحظة في رفع أسعار النفط بشكل فوري، نظرًا لما قد يمثله ذلك من تهديد مباشر لسلاسل الإمداد، خاصة وأن إيران تعتبر لاعبًا رئيسيًا في سوق النفط، سواء كمصدر أو كممر استراتيجي في مضيق هرمز.
غير أن ما يعقّد الصورة أكثر هو الموقف الأمريكي نفسه. فإدارة الرئيس الأمريكي الحالي لا تبدو متحمسة لتصعيد كبير في هذا التوقيت، لا سيما مع اقتراب مفاوضات نووية جديدة مع طهران. وإذا نجحت واشنطن في عقد اتفاق دبلوماسي مع إيران، فقد تتبدد المخاوف من التصعيد، وربما يعود التركيز مجددًا إلى أساسيات السوق، مثل العرض والطلب، وهو ما من شأنه أن يُعيد أسعار النفط إلى مسارها الهابط مرة أخرى.
ومن جانب أوبك، يبدو أن هناك نبرة تفاؤلية لا تزال تهيمن على تصريحات مسؤوليها، خصوصًا في ما يتعلق بالطلب العالمي. فقد صرّح الأمين العام للمنظمة بأنهم يتوقعون نموًا في الطلب بمقدار 1.3 مليون برميل يوميًا خلال عامي 2025 و2026، رغم التحديات الاقتصادية والجيوسياسية القائمة. وهذه التوقعات، وإن بدت متفائلة، قد تدفع بالمنظمة إلى زيادة الإنتاج تدريجيًا، وهو أمر قد يضيف ضغوطًا جديدة على الأسعار في حال لم يتزامن مع ارتفاع حقيقي في الاستهلاك العالمي. وهنا يكمن التناقض؛ فبينما تبعث أوبك برسائل ثقة، تُظهر المؤشرات الأمريكية والعالمية علامات واضحة على التباطؤ.
وما أراه بوضوح هو أن السوق تقف على مفترق طرق حرج، تتنازع فيه العوامل الأساسية (Fundamentals) مع العوامل الجيوسياسية والنفسية. فمن ناحية، تبرز إشارات التراجع من السوق الأمريكية، وهي الأقرب إلى الواقعية والقياس المباشر. ومن ناحية أخرى، تبقى التوترات الشرق أوسطية كعامل مفاجئ قد يعكس الاتجاه في لحظة واحدة، دون سابق إنذار. وهنا تكمن خطورة الرهان على أحد الطرفين دون تحوط كافٍ.
وفي رأيي، المدى القصير سيبقى محكومًا بالغموض، ولكن الاتجاه المتوسط يميل إلى التراجع، خاصة إذا استمرت مؤشرات ضعف الطلب وزادت واردات النفط لدى الدول الكبرى. حتى وإن حدث تصعيد عسكري، فقد لا يدوم تأثيره طويلًا ما لم تتعطل فعليًا طرق الشحن أو الإنتاج. أما في حال تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، فقد نشهد موجة هبوط ملحوظة للأسعار، خاصة إذا صاحبها رفع للعقوبات وزيادة في الصادرات الإيرانية. عندها، ستواجه السوق فائضًا جديدًا في العرض، يصعب امتصاصه بسهولة.
وفي الختام، أعتقد أن المتداولين الذين يراهنون على ارتفاع مستمر في أسعار النفط عليهم أن يكونوا أكثر حذرًا، فالإشارات التي ترسلها الأسواق الآن لا تبشر بانتعاش قريب. وإذا ما تزايدت الضغوط من السوق الأمريكية واستمرت أوبك في نهجها المتفائل، فقد تتحول هذه التوقعات إلى ما يشبه الفقاعة التي تنفجر عند أول اختبار حقيقي. باختصار، الحذر والمرونة يجب أن يكونا سمة المرحلة المقبلة.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية