كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
يشهد الذهب حالة من التذبذب اللافت حالياً، حيث لامس سعر الأونصة مستويات تقارب 3,400 دولار، قبل أن يشهد تراجعًا طفيفًا مع بداية التعاملات اليوم الثلاثاء. وهذا التراجع لا يعكس بالضرورة ضعفًا في الزخم الصعودي، بل يمكن اعتباره استراحة فنية قصيرة في مسار تصاعدي ما زال مدفوعًا بعدة عوامل أساسية، على رأسها التوترات التجارية المتصاعدة، والتطورات الجيوسياسية، والتحولات المحتملة في سياسات الفيدرالي الأميركي. ومن وجهة نظري، أعتقد أن الذهب لا يزال يتمتع بجاذبية قوية كأداة تحوط، وأن التراجعات الحالية قد تمثل فرص شراء على المدى المتوسط، وليس بداية لانعكاس هبوطي.
والحدث المحوري الذي أشعل شرارة القلق في الأسواق هو إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عزمه مضاعفة الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألمنيوم إلى 50٪، في خطوة تثير مخاوف جدية بشأن نشوب حرب تجارية شاملة مع الصين، وربما مع شركاء تجاريين آخرين. والأسواق لا تتفاعل فقط مع الأرقام، بل مع الرسائل السياسية الكامنة خلف هذه التحركات، وهنا تكمن الخطورة. فمناخ عدم اليقين الذي يخيم على العلاقات التجارية الدولية يرفع الطلب تلقائيًا على الذهب كملاذ آمن، حتى إن تراجع السعر مؤقتًا بسبب تحركات الدولار.
وفي الوقت ذاته، يستفيد الذهب من ضعف متجدد في الدولار الأميركي، الذي فقد زخمه بعد تراجعه إلى أدنى مستوياته في ستة أسابيع، قبل أن يشهد تعافيًا تقنيًا مدفوعًا بعمليات جني أرباح. لكن هذا الارتفاع في الدولار يبدو لي هشًا بطبيعته، نظرًا إلى استمرار الضغوط على السياسة النقدية الأميركية، والمخاوف المتصاعدة بشأن صحة الوضع المالي الفيدرالي، وسط توقعات بخفض مرتقب لأسعار الفائدة. وأي تراجع جديد في عوائد السندات الأميركية سيمنح الذهب دفعة جديدة نحو الأعلى، خصوصًا مع توقعات الأسواق بخفض الفائدة مرتين على الأقل خلال عام 2025.
وأرى، إن اختراق الذهب لمستوى المقاومة الرئيسي على الرسم البياني اليومي، إلى جانب الزخم الصعودي في مؤشر القوة النسبية، يؤكدان أن الاتجاه الصاعد ما زال سليمًا. وصحيح أن العودة دون مستوى 3,400 دولار قد تبدو سلبية على المدى القصير، إلا أن السلوك السعري العام ما زال يعكس نية واضحة لدى السوق لدفع السعر نحو مستويات قياسية جديدة، مدعومة بمزيج من التوترات السياسية والمالية والاقتصادية. لذا فإن هذا الاختراق لا يجب التقليل من شأنه، إذ قد يمثل بداية مرحلة تسارع في الاتجاه الصعودي إذا ما توافقت الظروف الأساسية.
والقلق لا يقتصر على العلاقات التجارية فقط، بل يمتد إلى الجبهة الجيوسياسية. فالتطورات الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، والتي لم تثمر عن أي تقدم جوهري في مفاوضات السلام، تُضفي بعدًا إضافيًا من التوتر على البيئة العالمية. وهذه التهديدات، حتى وإن بدت بعيدة جغرافيًا عن مراكز المال، تؤثر بشكل مباشر على شهية المخاطر لدى المستثمرين العالميين، وبالتالي تعزز جاذبية الذهب كملاذ آمن. ولا يمكن إغفال هذا العامل، خصوصًا في ظل استمرار التردد في السياسات الغربية تجاه التصعيد.
في نفس الوقت تزداد قناعة الأسواق بأن الفيدرالي الأميركي يسير فعليًا نحو تيسير سياسته النقدية خلال النصف الثاني من العام. فالتصريحات الأخيرة من أعضاء اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة توحي بأن الاحتمال لا يزال مفتوحًا أمام خفض الفائدة، رغم القلق من تأثير الرسوم الجمركية على التضخم. ومن الواضح أن الفيدرالي يتبنى نهجًا “حذراً”، ولكن استمرار تراجع البيانات الاقتصادية، خصوصًا في قطاع الوظائف، سيجبره على التحرك. وهنا تبرز أهمية بيانات الوظائف الشاغرة (JOLTS) وبيانات الوظائف غير الزراعية (NFP) المرتقبة، والتي ستكون حاسمة في تحديد الاتجاه المستقبلي للدولار، وبالتالي للذهب.
وعليه أرى أن التراجعات الحالية في سعر الذهب لا تمثل تغييرًا جوهريًا في الاتجاه، بل فرصة للتمركز التدريجي استعدادًا لجولة صعودية جديدة قد تتجاوز 3,450 دولارًا خلال الأسابيع المقبلة، خاصة إذا جاءت بيانات سوق العمل الأميركية دون التوقعات. ولا يمكن تجاهل أن الأسواق تتفاعل حاليًا مع خليط من المخاوف التجارية، التوترات الجيوسياسية، والضبابية النقدية، وهي ظروف تاريخيًا ما تكون مثالية لتعزيز أسعار الذهب.
والخلاصة من وجهة نظري، أن الذهب يقف على أعتاب مرحلة جديدة من الارتفاعات، مدفوعًا بعوامل جوهرية لا يُتوقع أن تتلاشى في الأجل القريب. فالتوترات التجارية، احتمالات خفض الفائدة، وضعف الدولار، وتصاعد المخاطر الجيوسياسية، كلها تشكل وصفة تقليدية لصعود المعدن النفيس. لذلك، فإن أي تراجعات حالية يجب التعامل معها كفُرص، وليس كمؤشرات على نهاية الاتجاه الصاعد. والذهب ما زال يحتفظ ببريقه في عالم يتخبط بين الحروب التجارية والنقدية والسياسية، ولا يزال الاحتمال مفتوحًا نحو قمم جديدة.