كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
بينما تستقر عملة البيتكوين عند مستويات تقارب 105,519 دولارًا، فإن هذا التماسك لا يجب أن يُفسّر على أنه مرحلة ركود، بل هو في رأيي بداية لتغير هيكلي أعمق في مشهد الأصول المشفرة عالميًا. فالتطورات السياسية والمالية الأخيرة – وتحديدًا إعلان بورصة نيويورك عن نيتها إدراج صندوق تداول مرتبط بمنصة “تروث سوشيال” التابعة لدونالد ترامب – تؤكد أن البيتكوين لم يعد أصلًا على هامش النظام المالي، بل يتجه تدريجيًا نحو المركز. نحن نشهد اليوم أولى مراحل ترسيخ شرعية البيتكوين ليس فقط كأداة مالية، بل كأداة سياسية كذلك، وهذا التحول قد يفتح الباب أمام موجة جديدة من المستثمرين المؤسسيين والفرديين، مدفوعة بتقاطع النفوذ السياسي مع أدوات الاستثمار المشفر.
ولا يمكن تجاهل التوسع الملحوظ في مشاريع ترامب المرتبطة بالبيتكوين، وعلى رأسها خطة خزانة بقيمة 2.5 مليار دولار. فهذه الخطوة لا تنبع فقط من رغبة سياسية لتعزيز نفوذ ترامب الاقتصادي، بل تعكس أيضًا تحوّلًا في إدراك النخبة المالية الأمريكية لقيمة البيتكوين كأصل تحوطي ووسيلة تنويع استراتيجي. ومن وجهة نظري، فإن موافقة الجهات التنظيمية على إدراج صندوق “الحقيقة الاجتماعية بيتكوين” ستمثل لحظة فاصلة في رحلة البيتكوين نحو الاعتماد المؤسسي الكامل. فإذا ترافق هذا مع استمرار الطلب المؤسسي، فإننا قد نرى اختراقًا لمستويات تاريخية تتجاوز 111,000 دولار، وربما دخول البيتكوين في مسار سعري جديد كليًا.
ولكن على الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية، هناك تذبذب ملحوظ في سلوك السوق. التراجع الأخير من القمة إلى مستوى 103.9 ألف دولار يُظهر أن الزخم الصعودي يواجه مقاومة تقنية ونفسية عند المستويات المرتفعة. كما أن تحركات العملات الأخرى مثل إيثريوم وXRP – والتي أظهرت أداءً أفضل نسبيًا – تُشير إلى تنوع مراكز المستثمرين وعدم حصر اهتمامهم في البيتكوين وحدها. وفي ظل القيمة السوقية الإجمالية التي بلغت 3.31 تريليون دولار ووجود مؤشر خوف وجشع عند مستوى 58، فإن السوق تقف حاليًا على حافة التحول، إما نحو استئناف الصعود أو نحو تصحيح أوسع.
وما يُعقّد المشهد أكثر هو التوتر الجيوسياسي، خصوصًا بعد التصريحات الأخيرة من ترامب تجاه الصين. في ظل التاريخ الطويل من الحروب التجارية بين البلدين، فإن تصاعد لهجة الخطاب يمكن أن يُقلق المستثمرين ويخلق موجة هروب نحو الأصول الآمنة، وهو ما قد يستفيد منه البيتكوين في حال تراجع الدولار أو ساد الغموض. وفي رأيي، فإن أي اضطراب كبير في العلاقات الصينية-الأميركية قد يُعيد إشعال شهية المخاطرة في البيتكوين باعتباره “ذهبًا رقميًا”، خصوصًا في حال جاءت البيانات الأميركية ضعيفة وأظهرت تأثر الاقتصاد بإجراءات ترامب الجمركية المتوقعة.
ومن جهة أخرى، فإن البيانات المتعلقة بصناديق الاستثمار المتداولة تقدم إشارات متباينة. صحيح أن مايو شهد تدفقات صافية قوية لصالح صناديق البيتكوين بلغت 5.23 مليار دولار، إلا أن بداية يونيو كانت ضعيفة، مع تسجيل تدفقات خارجة يومية لثلاثة أيام متتالية. وهذا لا يُشير فقط إلى فتور مؤقت في الطلب المؤسسي، بل يعكس أيضًا حالة من الترقب والقلق حيال التطورات السياسية والاقتصادية. ومع استمرار هذه التدفقات الخارجة، فإن الضغوط على سعر البيتكوين قد تتزايد ما لم تُعوّض من مصادر طلب بديلة.
وفي المقابل، فإن صناديق إيثريوم المتداولة سجلت أداءً مغايرًا، مع تدفقات إيجابية لـ11 يومًا متتاليًا. وهذا يُظهر، من وجهة نظري، تحوّلًا في سلوك المستثمرين المؤسسيين الذين باتوا ينظرون إلى الإيثريوم كأصل أكثر مرونة وقابلية للنمو، خاصة بعد تعليقات إيجابية من هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية بشأن آليات التخزين. وربما يكون هذا التحوّل لصالح الإيثريوم أمرًا مؤقتًا، لكنه يُبرز الحاجة إلى تعامل البيتكوين مع تحدياته التنظيمية والسعرية بسرعة وحسم.
أما على صعيد اهتمام الأفراد، فإن الأرقام لا تبعث على التفاؤل الكامل. فانخفاض مؤشرات البحث عن البيتكوين على غوغل يعكس ضعف الاقبال الشعبي، رغم المستويات السعرية العالية. وهذا الانفصال بين الأداء السعري وبين اهتمام التجزئة قد يعني أن السوق بحاجة إلى محفزات جديدة – سواء صعودية أو هبوطية – لإعادة جذب المستثمرين الأفراد. وربما يكون التحرك الحاد، صعودًا أو هبوطًا، هو المحفز الوحيد القادر على كسر الجمود النفسي المسيطر حاليًا.
ويظل هناك ضوء واضح قادم من قطاع الشركات. فقد بدأت العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة بتبني استراتيجية خزانة العملات المشفرة، وتحديدًا البيتكوين، كوسيلة لتعزيز ميزانياتها وتنويع أصولها. ومن الأمثلة البارزة على ذلك ميكروستراتيجي وميتا بلانيت، بالإضافة إلى ترامب ميديا. وهذه الشركات، رغم حجمها الأصغر مقارنةً بالعمالقة الماليين، تُشكل قوة صاعدة جديدة قد تكون هي من يعيد الحيوية للسوق في المرحلة القادمة. وفي رأيي، فإن هذا التبني التدريجي من قبل قطاع الأعمال – خصوصًا الشركات المرنة ذات النمو السريع – هو الذي سيشكل الدعامة الحقيقية القادمة للبيتكوين.
وفي المحصلة، يمكنني القول إن البيتكوين يقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي. وإن استقراره عند مستويات مرتفعة رغم الضغوط هو دليل على قوة أساسياته، لكنه في الوقت نفسه بحاجة إلى دفعة نفسية وتنظيمية جديدة للانطلاق نحو مستويات غير مسبوقة. وأرى أن الدمج المتزايد بين عالم السياسة والأصول المشفرة، إلى جانب نضج السوق المؤسسية وتنامي تبني الشركات، يمكن أن يشكل وقود المرحلة المقبلة. لكن، في المقابل، فإن تجاهل التوترات الجيوسياسية وتقلبات الطلب المؤسسي قد يكون مكلفًا. فالمستقبل لا يعد بالصعود فقط، بل يتطلب يقظة استراتيجية وتحليلاً دقيقًا لكل متغير اقتصادي وسياسي على الساحة الدولية.