بقلم: نورا علي المرعبي
في زمنٍ لم تعد فيه الورقة والقلم مرادفًا للإدارة، وفي عصر تُقاس فيه كفاءة الحكومات بمدى جاهزيتها الرقمية، تغدو الحكومة الإلكترونية أداة مركزية لإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة. وبينما يشهد العالم العربي حراكًا متفاوت الإيقاع نحو الرقمنة، يتكشف واقعٌ يراوح بين النجاحات الواعدة والإخفاقات المؤلمة.
التحول الرقمي: فُرص عربية تفرضها الضرورة
لا يمكن إنكار أن بعض الدول العربية نجحت إلى حدّ بعيد في تسخير التكنولوجيا الحديثة لبناء حكومات ذكية وفعّالة. المملكة العربية السعودية مثال حيّ على هذا التحول، إذ حققت المرتبة السادسة عالميًا في مؤشر الأمم المتحدة لتنمية الحكومة الإلكترونية لعام 2024، متقدمة على العديد من الدول الأوروبية. الإمارات أيضًا حافظت على موقعها المتقدم في المرتبة 11، بفضل استراتيجياتها الممنهجة التي قامت على الابتكار، والحوكمة الرشيدة، وتسهيل حياة المواطن والمقيم على حدّ سواء.
وفي الخليج عمومًا، شكّلت الرؤية السياسية الطموحة، إلى جانب الاستقرار النسبي والقدرة على الاستثمار طويل الأمد، الركيزة التي قامت عليها هذه التحولات الرقمية. مدنٌ مثل دبي لا تمثل فقط نموذجًا رقميًا على مستوى المنطقة، بل أصبحت مختبرًا عالميًا للتقنيات الحديثة في الحوكمة والخدمات العامة.
لكن ما يلفت الانتباه هو الفجوة الكبيرة بين هذه النماذج الناجحة، ودول أخرى لا تزال تعاني من اختلالات بنيوية تعرقل الوصول إلى الحد الأدنى من التحول الرقمي، وفي مقدمتها لبنان.
لبنان: المفارقة الرقمية في بلد يصدّر العقول ويستورد التكنولوجيا
لطالما افتخر اللبنانيون بعقولهم النيّرة وكفاءاتهم العالية التي تلمع خارج الحدود، لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن هذا البلد الذي يخرّج آلاف المهندسين وخبراء التقنية سنويًا، يعجز عن تأمين خدمة رقمية واحدة متكاملة وفعّالة لمواطنيه في الداخل.
لبنان احتل المرتبة 126 عالميًا في مؤشر الحكومة الإلكترونية للعام 2024، ما يعكس تراجعًا خطيرًا مقارنةً بالإمكانات المتوفرة. صحيح أن المؤشر أشار إلى تحسّن طفيف في الأداء العام، إلا أن هذا التحسن لا يزال بعيدًا عن الحد الأدنى المطلوب. يعود ذلك إلى جملة من الأسباب المعقدة، أبرزها غياب الإرادة السياسية، وتردي البنية التحتية، وارتفاع معدلات الفساد الإداري، والانقسام السياسي المزمن.
فأبسط خدمة إلكترونية كدفع رسوم رسمية أو الحصول على إخراج قيد لا تزال محفوفة بالعقبات، ومحصورة بمنصات ضعيفة أو مشلولة أو غير فعّالة. الإنترنت نفسه في لبنان يعاني من بطء شديد، إذ تشير الإحصاءات إلى متوسط سرعة لا يتجاوز 7 ميغابت في الثانية، وهي سرعة تضع لبنان في مؤخرة الترتيب العالمي. فكيف لدولةٍ بهذه المواصفات أن تطمح إلى إطلاق منصات رقمية على مستوى عصري؟
ما الذي يمنع لبنان من النهوض رقمياً؟
إن السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم ليس “لماذا تأخرنا؟”، بل “كيف نتقدم؟”. فالتأخير بات أمرًا واقعًا لا جدال فيه، لكن ما لا يجب أن نتغافل عنه هو وجود فرصة حقيقية لتحويل هذا التأخر إلى دافع للنهوض، شرط توافر الوعي، والتخطيط، والإرادة.
الواقع يُظهر أن هناك ثلاث مشكلات مركزية تعيق هذا التقدم: أولها غياب البنية التحتية الرقمية الحديثة؛ ثانيها غياب الثقة بين المواطن والدولة بسبب تفشي الفساد؛ وثالثها غياب استراتيجية وطنية موحدة تؤمن بأن التحول الرقمي ليس مشروعًا تجميليًا بل مسارًا إصلاحيًا شاملاً.
مقترحات عملية من رحم الواقع لا من خيال الشعارات
بعيدًا عن التنظير، يمكن للبنان – رغم كل شيء – أن يبدأ بخطوات بسيطة لكنها جوهرية:
أولًا، على الدولة اللبنانية أن تبدأ فورًا بربط قواعد بيانات الوزارات المختلفة بمنصة إلكترونية واحدة، تُدار بإشراف هيئة مستقلة تضمن الشفافية والرقابة. هذا الربط وحده كفيل بتقليل الفساد وتسريع الخدمات بشكل جذري.
ثانيًا، يجب اعتماد نظام موحد للهوية الرقمية، يُمكن المواطنين من الحصول على الخدمات دون الحاجة إلى التنقل أو المعاملات الورقية. بلدان أقل تطورًا اقتصاديًا من لبنان نجحت في ذلك، فهل يُعقل أن يبقى اللبناني حبيس الطوابير والاختام اليدوية؟
ثالثًا، يمكن إشراك القطاع الخاص – خصوصًا شركات البرمجيات اللبنانية المنتشرة حول العالم – في تطوير المنصات الحكومية. هؤلاء الشباب الذين يبنون أنظمة متقدمة في الخارج، مستعدون للمساهمة في بناء وطنهم إذا توفرت الحوكمة الصادقة.
رابعًا، يجب أن تتحول الجامعات إلى محرك للرقمنة، لا مجرد مؤسسات أكاديمية. تكليف طلاب الدراسات العليا بمشاريع لتطوير الخدمات الحكومية هو استثمار لا يتطلب ميزانية كبيرة، بل عقلية انفتاحية.
لا دولة بلا رقم، ولا عدالة بلا بيانات
الرقمنة في جوهرها ليست فقط تقنية. إنها فلسفة حكم، ومنهج في الإدارة، وطريقة لتقريب الدولة من المواطن. حين يشعر الفرد أنه يستطيع أن يحصل على حقه بكبسة زر، دون واسطة أو رشوة أو مذلة، فإنه يستعيد إيمانه بالوطن.
لبنان، رغم أزماته العميقة، لا يزال يملك كل المقومات ليعود لاعبًا رقميًا في المنطقة. كل ما يحتاجه هو شجاعة القرار، لا أكثر. فالدول لا تنهض بالخطب ولا بالمؤتمرات، بل بخطط تنفيذية صادقة، تبدأ من أبسط المعاملات ولا تنتهي إلا عند إعادة بناء الثقة الكاملة بين المواطن والدولة.
والسؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم، ليس ما إذا كنا قادرين على التحول الرقمي، بل: متى نقرر أن الوقت قد حان؟