د. ميلاد السبعلي

المقدمة: من الجمود إلى التحوّل
في خضم الأزمات المتلاحقة التي يعيشها لبنان، من الانهيار المالي إلى تراجع مؤسسات الدولة، يبرز التحوّل الرقمي وبناء اقتصاد المعرفة كأحد المسارات القليلة المتاحة لإعادة بناء الدولة، وإطلاق عجلة النمو، وتمكين الجيل الجديد من التفاعل مع العصر بدل الهجرة من لبنان.
لكن هذا المسار يتطلّب رؤية وطنية، إرادة سياسية، تشريعات عصرية، وبنية مؤسساتية تقود المشروع الرقمي الشامل، دون تشتّت أو استعراض إعلامي.
وقد شهد لبنان تاريخيًا صراعًا فكريًا بين يمين اقتصادي يدافع عن قطاعات الخدمات، مثل تجارة الترانزيت والمصارف والسياحة وغيرها، ويسار اقتصادي يطالب بتعزيز القطاعات الإنتاجية من الصناعة والزراعة. في هذا العصر، الذي أصبح فيه القطاع المعرفي هو قاطرة الاقتصاد، لتطوير هذه القطاعات وبناء الحكومة الرقمية الذكية، إضافة الى نشوء قطاع معرفي انتاجي وخدماتي، لم يعد هناك من داعي أو معنى لهذا الصراع التاريخي. بل أصبح من الضروري وضع رؤية جديدة لهوية الاقتصاد في لبنان والمنطقة، يرتكز الى اقتصاد المعرفة للنهوض بكافة القطاعات.
***
أولاً: مجالات تطبيق التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي في لبنان
1. في القطاع العام – نحو حكومة ذكية وفعّالة:
• الهوية الرقمية الوطنية (UINL): أداة محورية لتوحيد جميع المعاملات والخدمات تحت رقم تعريفي واحد، من الولادة حتى الوفاة.
• الحكومة الإلكترونية المتكاملة: عبر منصّة وطنية موحّدة، ترتبط بها كل الوزارات والمؤسسات، وتقدّم الخدمات إلكترونيًا، دون الحاجة إلى “المعاملات الورقية اليدوية” أو الطوابير المهينة.
• المشتريات الإلكترونية: لإلغاء نظام المناقصات الغامض، واستبداله بمنصّة مفتوحة شفافة تسمح بمشاركة الجميع، وتحدّ من الفساد والهدر.
• إتاحة الوصول إلى المعلومات (RAIL): وهو قانون أُقرّ عام 2017، لكنه لا يُطبّق بفعالية، في حين أن الشفافية والمساءلة هما أساس أي تحوّل رقمي فعلي.
• العدالة الرقمية: عبر ربط المحاكم بالبيانات المركزية، الدفع الإلكتروني، تتبع القضايا، وإتاحة الشفافية القانونية للمواطنين والمحامين.
• الخدمات الاجتماعية الذكية: مثل التعليم والصحة والضمان ودوائر النفوس عبر تطبيقات رقمية سريعة وسهلة.
• إدارة الكوارث واللاجئين: باستخدام الذكاء الاصطناعي لتتبع الحركات، احتساب المساعدات، والتنسيق بين الوزارات والجهات الدولية.
2. في القطاع الخاص – نحو اقتصاد رقمي إنتاجي:
• الصناعة والزراعة الذكية: باستخدام روبوتات وذكاء صناعي لمراقبة الإنتاج، تقليل الكلفة، ورفع الجودة.
• الخدمات المالية والتأمين: من خلال أنظمة كشف احتيال رقمية، تقييم ذكي للعملاء، وتوسيع قاعدة الشمول المالي.
• الرعاية الصحية الذكية: تشمل التشخيص الآلي بالصور، إدارة ملفات المرضى، ومراقبة الأدوية.
• التعليم الرقمي: سواء عبر منصّات وطنية، أو بالشراكة مع جامعات عالمية لتدريب طلاب المدارس والجامعات على المهارات المستقبلية.
• الاقتصاد الإبداعي الرقمي: عبر إنتاج وتسويق المحتوى الرقمي اللبناني من إعلام وموسيقى وتعليم.
• تشجيع الشركات الناشئة: ضمن حاضنات ومسرّعات مدعومة بقوانين تحفيزية ومنح تمويلية.
***
ثانيًا: التشريعات المطلوبة لتحقيق هذا التحوّل
رغم بعض الخطوات المتفرقة، لا يزال لبنان بحاجة إلى بيئة قانونية وتشريعية متكاملة تواكب التحوّل الرقمي. وإليك أهم القوانين المطلوبة، مقارنةً مع تجارب عالمية رائدة:
رغم أن مشروع الهوية الرقمية الوطنية موجود منذ عام 2017، إلا أنه لم يُفعّل حتى اليوم، على الرغم من كونه أساسًا لتوحيد المعاملات وربط الخدمات العامة ضمن نظام رقمي موحّد.
أما فيما يخص حماية البيانات والخصوصية، فهي منصوص عليها في قانون المعاملات الإلكترونية رقم 81/2018، إلا أن هذا القانون لا يزال يفتقر إلى هيئة ناظمة تُشرف على تطبيقه وتضمن حماية المواطنين من سوء استخدام بياناتهم.
ويُسجَّل غياب تام لأي قانون خاص بالذكاء الاصطناعي، رغم الحاجة الملحّة إلى تنظيم التطبيقات عالية الخطورة وضمان التزامها بالمعايير الأخلاقية والشفافية.
كما أن قانون المشتريات الإلكترونية، رغم تداوله في الاستراتيجيات الحكومية، لم يُطبّق بفعالية حتى الآن، في حين أن الشفافية في العقود والمناقصات تُعدّ من الشروط الأساسية لحوكمة رقمية سليمة.
أما قانون التعليم الإلكتروني، فهو غير موجود حتى الآن، رغم الحاجة لتنظيم الاعتراف بالشهادات الرقمية وضبط جودة المنصّات التعليمية، خصوصًا بعد تجربة التعليم عن بُعد خلال جائحة كورونا.
وفي مجال التجارة الإلكترونية، تنصّ بعض مواد قانون 81/2018 على أحكام متعلّقة بها، لكن تطبيقها العملي لا يزال غائبًا، مما يترك هذا القطاع بدون تأطير قانوني فعّال يحمي المستهلكين وينظّم السوق.
وبالنسبة إلى الملكية الفكرية الرقمية، فإن القانون اللبناني الحالي قديم ولا يشمل التكنولوجيا الحديثة مثل البرمجيات والخوارزميات والمحتوى الرقمي، مما يستوجب تحديثه لمواكبة التحوّل الرقمي.
ويُضاف إلى ذلك غياب أي قانون خاص بالأمن السيبراني، في وقت أصبحت فيه حماية البنية الرقمية الوطنية من الهجمات والاختراقات أمرًا استراتيجيًا.
أخيرًا، يُسجَّل الغياب الكامل لأي تشريع يعالج مسألة حوكمة البيانات، والتي تمثّل العمود الفقري لتكامل البيانات بين الإدارات العامة، وتنظيم تبادلها بين القطاعين العام والخاص وفق ضوابط واضحة.
***
ثالثًا: كيف نعالج هذا الخلل التشريعي؟
• إنشاء هيئة وطنية مستقلة للتحوّل الرقمي: تتبع مباشرة رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة، وتملك صلاحيات تشريعية ومتابعة تنفيذية.
• إقرار “قانون اقتصاد المعرفة والتحوّل الرقمي”: يتضمن كافة المكونات التنظيمية والتشريعية في قانون واحد متكامل، مع أهداف واضحة ومؤشرات أداء قابلة للقياس.
• وضع خطة وطنية للتحوّل الرقمي حتى عام 2035: تشمل مخرجات مرحلية، تربط بين الحكومة والقطاع الخاص والجامعات والمجتمع المدني.
***
رابعًا: الدبلوماسية الرقمية – دور لبنان الإقليمي في العصر الرقمي
الدبلوماسية الرقمية هي أحد أدوات العصر الحديثة لبناء النفوذ والتعاون الإقليمي. لبنان، بحكم موقعه وجالياته المنتشرة عالميًا، قادر على أن يلعب دورًا محوريًا في هذا المجال.
كيف يمكن توظيفها؟
• التواصل مع الجاليات اللبنانية الرقمية حول العالم لاستقطاب كفاءاتها وتمويل مشاريع تكنولوجية محلية.
• بناء شراكات مع مؤسسات دولية مثل الاتحاد الأوروبي، اليونسكو، والبنك الدولي لتمويل مشاريع التحوّل الرقمي.
• الترويج للبنان كمركز إقليمي للتدريب والبحث والإبداع الرقمي، عبر إطلاق حملات رقمية دولية.
***
خامسًا: مشاريع تكامل رقمي واقتصادي مشرقي – أمثلة عملية
1. الممر الرقمي للمعلومات والبضائع (Digital Corridor): ربط لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين عبر منصّة إلكترونية لتسريع الترانزيت التجاري والجمركي.
2. سحابة مشرقية للبحث والابتكار (Research and Innovation Cloud): تعاون بين جامعات لبنان والعراق والأردن وفلسطين في أبحاث الذكاء الاصطناعي، والصحة، والطاقة.
3. Mashreq Startups Grid: منصّة لربط الشركات الناشئة والمستثمرين في المشرق لتبادل المهارات والفرص.
4. مجمّع Mashreq AI للمهارات الرقمية: مركز تدريبي إقليمي مقره لبنان، لتأهيل الشباب في الأمن السيبراني وتحليل البيانات وتصدير الكفاءات للعمل عن بُعد.
5. المشرق الصحي الذكي: منصة صحية لتبادل البيانات بين الدول حول الأوبئة، وحماية المرضى المتنقلين.
6. تحالف إعلامي رقمي مشرقي: إنتاج محتوى رقمي عربي مشترك يعكس التنوع الثقافي ويرفع مستوى التأثير الإعلامي العربي.
***
سادسًا: التحوّل الرقمي كرافعة لتكبير سوق العمل والحد من الهجرة
إن التحوّل إلى الاقتصاد الرقمي لا يُنقذ فقط مؤسسات الدولة، بل يمتد أثره إلى المجتمع والناس مباشرة، وخاصة الشباب اللبناني الذين يفقدون الأمل ويهاجرون جماعيًا. وها هنا أهمية استراتيجية لهذا التحوّل:
• توسيع سوق العمل الوطني: عبر دعم العمل الحر، والشركات الناشئة الرقمية، وخدمات البرمجة، والتصميم، والاستشارات، والتعليم والتسويق عن بعد.
• تشجيع العمل عن بُعد: عبر البنية التحتية الرقمية وتنظيم الإطار القانوني، يمكن توظيف آلاف اللبنانيين في شركات عالمية دون أن يتركوا وطنهم.
• ربط المغتربين بخارطة الاقتصاد الرقمي الوطني:
– استثمار كفاءاتهم في التدريب والإرشاد والمشاريع.
– جذب استثماراتهم في شركات ناشئة أو مشاريع بنى تحتية رقمية.
– التعاون معهم لفتح أسواق جديدة للمنتجات والخدمات اللبنانية الرقمية.
• استفادة مزدوجة من الاغتراب اللبناني:
– سياسيًا عبر الدبلوماسية الرقمية.
– واقتصاديًا عبر منصّات تواصل بين رواد الأعمال في لبنان والاغتراب.
التحوّل الرقمي، هنا، يصبح سياسة “احتضان العقول بدل طردها”، ويحوّل الأزمة إلى فرصة للنمو.
***
سابعًا: الهيكلية المطلوبة لضمان التنفيذ الوطني
اليوم، يعاني لبنان من:
• تشظّي في المرجعيات (وزارات متعددة، غياب التنسيق).
• غياب مؤشرات الأداء أو خارطة طريق وطنية.
• تحوّل المؤتمرات إلى مناسبات إعلامية بلا نتائج ملموسة.
المطلوب هو:
1. إنشاء “المجلس الأعلى للتحوّل الرقمي واقتصاد المعرفة”
برئاسة رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء، ويضم:
• أمانة عامة تنفيذية.
• لجنة تشريعية.
• ممثلي الوزارات.
• ممثلي الجامعات والقطاع الخاص والاغتراب.
• هيئة تحليل بيانات وإصدار تقارير قياس التقدّم.
2. إقرار “رؤية وطنية رقمية للبنان 2035” تشمل:
• أهداف رقمية كمّية (مثلاً رقمنة 100% من المعاملات الحكومية بحلول 2028).
• مؤشرات واضحة: عدد الشركات الرقمية، عدد المهارات الرقمية، حجم الاستثمارات.
• تقارير ربع سنوية شفافة تُعرض أمام الإعلام والمجتمع.
***
ثامنًا: مجلس التعاون التكنولوجي المشرقي – رؤية تكاملية إقليمية
بالتوازي مع إنشاء المجلس الأعلى الوطني، على لبنان أن يبادر إلى إنشاء مجلس تعاون تكنولوجي مشرقي، بالتنسيق مع العراق، الأردن، سوريا، وفلسطين، ويُعنى بـ:
• تنسيق السياسات الوطنية الرقمية (تشريعات، أمن سيبراني، تعليم إلكتروني…).
• إطلاق مشاريع مشتركة (الممر الرقمي، السحابة البحثية، منصّات تدريب موحدة…).
• إنشاء سوق عمل رقمي مشرقي تربط الكفاءات بالفرص وتخلق منظومة تكاملية.
• التفاوض المشترك مع شركات التكنولوجيا الكبرى بشروط جماعية تحفظ السيادة الرقمية.
هذا المجلس يُساهم في تقليل التبعية للغرب، وتفعيل التضامن الرقمي في المشرق العربي، ويُعيد للبنان موقعه الطبيعي كمركز تفكير وتنسيق في المنطقة.
***
خاتمة: التحوّل الرقمي هو مشروع بقاء… لا ترف
إن التحوّل الرقمي ليس مجرّد خيار تكنولوجي، بل هو خيار وجودي لمستقبل لبنان، يجمع بين السيادة، والعدالة، والنمو، والشفافية. لكنه لن يتحقق بالخُطب أو المؤتمرات، بل بخارطة طريق وطنية، تقودها قيادة عليا وتُنفّذها مؤسسات حقيقية، ويشارك فيها كل أبناء لبنان المقيمين والمغتربين.