كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
وسط الاضطرابات الجيوسياسية التي تصاعدت في الشرق الأوسط خلال الأسبوع الماضي، شهدت أسواق العملات المشفرة اضطرابًا كبيرًا دفع البيتكوين إلى أدنى مستوى له خلال ستة أسابيع عند 98 ألف دولار. ومع ذلك، وفي تحول مفاجئ، انتعشت السوق بقوة مساء الاثنين بعد إعلان دونالد ترامب عن اتفاق لوقف إطلاق النار الكامل بين إسرائيل وإيران، مما أعاد الأمل إلى المتداولين ودفع العملات المشفرة الرئيسية لتحقيق مكاسب ملموسة. فالبيتكوين ارتفع بنسبة 5%، فيما قفزت الإيثريوم بنسبة 9%، وXRP بنسبة 7%، لتؤكد من جديد على الطبيعة التفاعلية للسوق المشفر مع الأحداث الجيوسياسية العالمية.
لذا أرى أن هذا الارتداد الحاد في الأسعار ليس مجرد تصحيح تقني، بل هو انعكاس مباشر لحالة الترقب والارتباط المتزايد بين أسواق الأصول المشفرة والمتغيرات السياسية. ولطالما اعتبرت العملات المشفرة ملاذًا بديلًا في أوقات الاضطراب الاقتصادي، إلا أن ما نشهده الآن يشير إلى حساسية هذه السوق المتزايدة للتوترات الجيوسياسية المباشرة، وخصوصًا عندما يكون لها امتداد عالمي يشمل الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الكبرى.
والتصعيد الأخير في منطقة الشرق الأوسط، والذي بلغ ذروته بهجوم إيراني على قاعدة أمريكية في قطر وردود فعل متسلسلة من الولايات المتحدة، أدى إلى حالة من الذعر في الأسواق المشفرة. إلا أن سلوك السوق بعد إعلان وقف إطلاق النار يعكس أمرين مهمين: الأول هو أن السوق لا تزال تُدار نفسيًا بقدر كبير، حيث يترجم المتداولون أي انفراجة سياسية إلى فرصة للشراء واستعادة التوازن؛ والثاني هو أن العملات المشفرة بدأت تأخذ دورًا أكثر ارتباطًا ببنية الأحداث العالمية الكبرى، وليس فقط بعوامل داخلية مثل معدلات الفائدة أو تبني المؤسسات.
واللافت للنظر أن هذا الانتعاش لم يقتصر على العملات الكبرى فقط، بل شمل أيضًا قطاعات فرعية مثل رموز الذكاء الاصطناعي والعملات المستندة إلى الميمات، والتي ارتفعت بنسبة تراوحت بين 9% و12%. وهذا يعكس وجود نشاط مضاربي ملحوظ، مدفوعًا بتوقعات بتحسن السيولة وحالة من “الاطمئنان المؤقت” بين المستثمرين بعد الانفراجة الدبلوماسية. وهنا، يكمن التحدي الحقيقي أمام الأسواق: هل سيكون هذا الصعود مستدامًا، أم أنه مجرد استجابة لحظية لحدث سياسي عابر؟
ومن وجهة نظري أن هذا التعافي سيكون مؤقتًا ما لم ترافقه عوامل دعم أساسية أقوى. فوقف إطلاق النار بين خطوة إيجابية بلا شك، لكن ما لم تُترجم هذه التهدئة إلى استقرار جيوسياسي طويل الأمد، فإن الأسواق ستبقى عُرضة للتقلب. وعلى المستوى الاقتصادي، فإن تخفيف بنك الاحتياطي الفيدرالي للقيود المفروضة على البنوك التي تتعامل مع شركات العملات المشفرة، من خلال إزالة مصطلح “المخاطر السمعية” من إرشاداته، يمكن أن يُشكل دعمًا هيكليًا طويل الأمد للأسواق المشفرة، لكن آثاره لن تظهر فورًا بل على مراحل، وقد تُواجه بمقاومة تنظيمية في أماكن أخرى حول العالم.
وما يُميز هذه الجولة من الانتعاش أنها تأتي في وقت يقترب فيه البيتكوين من مستويات مقاومة نفسية وتقنية مهمة عند حدود 110 آلاف دولار. حيث أن اختراق هذه المستويات قد يُشعل موجة شراء جديدة تقود البيتكوين نحو قممه التاريخية، لكن ذلك يتطلب توفر شروط متعددة، أهمها استقرار الأوضاع السياسية، واستمرار تدفق السيولة المؤسسية، وثقة المستثمرين الأفراد. وعلى الرغم من أن إعلان ترامب أحدث دفعة معنوية واضحة، إلا أن تجربة السوق مع “الإعلانات السياسية” تُشير إلى ضرورة الترقب وعدم الاندفاع.
ومن زاوية التحليل الكلي، فإن أي تطورات جديدة في الملف الإيراني، أو في علاقة طهران مع واشنطن، ستبقى عاملًا مهيمنًا على أداء الأسواق، بما في ذلك أسواق العملات المشفرة. كما أن السياسة النقدية الأمريكية، ومدى مرونة الاحتياطي الفيدرالي في تخفيف القيود البنكية على القطاع المشفر، ستلعب دورًا موازيًا في تحديد ما إذا كانت هذه الأسواق ستدخل في موجة صعود جديدة أم ستظل رهينة لموجات من التقلبات العنيفة.
وعليه أتوقع أن تستمر حالة التذبذب الإيجابي في السوق خلال الأيام القليلة المقبلة، مع احتمالية حدوث عمليات جني أرباح سريعة، خصوصًا إذا لم تظهر إشارات جديدة تؤكد تحول الهدنة إلى تسوية دائمة. ومن منظور استثماري، فإن الفرص ما زالت متاحة، لكن التعامل معها يجب أن يكون بحذر شديد، وباستراتيجية إدارة مخاطر صارمة، خصوصًا مع تداخل الأحداث الجيوسياسية مع العوامل الاقتصادية بشكل غير مسبوق.
وفي الختام، فإن الانتعاش الذي شهدته العملات المشفرة بعد إعلان وقف إطلاق النار في الشرق الاوسط هو مثال حي على مدى حساسية هذه السوق للتطورات السياسية الكبرى. وبينما يمكن أن يُشكّل هذا الحدث نقطة تحوّل مؤقتة في الاتجاه العام، فإن الاستدامة مرهونة بتطورات لاحقة قد تعيد رسم المشهد. لذلك، من المهم ألا يُنظر إلى هذا الصعود بمعزل عن السياق الأشمل، وأن يُبنى أي قرار استثماري على تحليل شامل يجمع بين قراءة البيانات المالية وفهم تحركات السياسة العالمية المتغيرة.