الذكاء الاصطناعي وإعادة هندسة التعليم: من الورق إلى التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي بين الفرص والتحديات

بقلم: د. خالد عيتاني – رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية

مقدمة

يشهد التعليم ثورة غير مسبوقة يقودها الذكاء الاصطناعي، حيث تتحول الصفوف إلى فضاءات ذكية تقدّم تعلماً شخصياً وتغذية راجعة فورية، ويستبدل التقويم التقليدي بمشاريع أصيلة ومهام تكشف التفكير النقدي والإبداع، وتتراجع الشهادات الورقية أمام الشهادات الدقيقة ومحافظ المهارات، فيما تنتقل المناهج من الورق إلى الرقمنة ثم إلى منظومات ذكية قابلة للتحديث الذاتي. الجامعات ترسم سياسات جديدة وتطلق برامج متخصصة، والمدارس تبدأ تجاربها رغم تحديات البنية التحتية، غير أن هذه التحولات تواجه مخاطر الانحياز وتسطيح التفكير وتهديد دور المعلّم، ما يجعل الحوكمة والعدالة الرقمية ضرورة ملحّة.

ولا تكمن أهمية هذا التحول في بعده التربوي فحسب، بل في أبعاده الاقتصادية أيضاً، إذ إن إدماج الذكاء الاصطناعي في التعليم يساهم في إعداد قوة عاملة أكثر مرونة، ويخلق فرص عمل جديدة ومتنوعة في مجالات التعليم الرقمي، تصميم المحتوى، تحليل البيانات، وإدارة المنصات التعليمية الذكية. إن العقد القادم سيكون عقد إعادة هندسة التعليم، حيث يتحوّل الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة تقنية إلى شريك استراتيجي يعيد للتعليم رسالته ويعزز دوره في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

1.  التحولات الراهنة في التعليم

أ. الصفوف الدراسية  (Classrooms)

أدوات الذكاء الاصطناعي تساعد المعلّمين على التخطيط وتصميم دروس مخصّصة بحسب مستوى الطالب، مع تقديم تغذية راجعة شخصية (Personalized Feedback) تعزّز العدالة التعليمية، وتفتح المجال لتعلّم أكثر تفاعلية وشمولية.

ب. التقويم  (Assessment)

الامتحانات التقليدية تفقد قيمتها تدريجياً، إذ يتحوّل الاهتمام نحو مشاريع أصيلة (Authentic Tasks)، مقابلات، عروض شفوية، ومهام تطبيقية تكشف التفكير النقدي، الإبداع، التعاون، وحل المشكلات.

ج. الشهادات  (Credentials)

لم تعد الدبلومات وحدها كافية؛ فقد برزت الشهادات الدقيقة (Micro-Credentials) ومحافظ المهارات (Skills Wallets) كأدوات أساسية لإثبات الكفاءات والانتقال إلى التوظيف القائم على المهارات (Skills-Based Hiring).

د. المؤسسات  (Institutions)

المدارس والجامعات تعيد تصميم أنظمتها لدمج ثقافة الذكاء الاصطناعي، ومحو الأمية الرقمية، وأخلاقيات البيانات ضمن ممارساتها اليومية، مع إعادة النظر في حوكمة السياسات التعليمية.

هـ. النشاطات  (Activities)

لم تعد الأنشطة الصفية مجرد تكميلية، بل أصبحت منصات للتعلم التطبيقي، حيث يوفّر الذكاء الاصطناعي أدوات لتنظيم المشاريع الطلابية، إدارة الوقت، دعم التعاون، وتحفيز المشاركة في المبادرات المجتمعية.

و. الأبحاث  (Research)

يستخدم الباحثون والطلاب تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، محاكاة النماذج، وإنتاج المعرفة بسرعة وكفاءة، مما يرفع من جودة الأبحاث العلمية، ويساهم في بناء مجتمع معرفي متجدد.

ز. التعليم الذاتي  (Self-Learning)

برز التعليم الذاتي كأحد أهم التحولات، حيث تتيح منصات الذكاء الاصطناعي للطلاب مسارات تعلم شخصية، ودروساً تكيفية، ومصادر مفتوحة، تجعل الطالب محور العملية التعليمية وتدفعه إلى الاستقلالية والاعتماد على نفسه.

ح. التطوير المهني والشراكات  (Professional Development & Partnerships)

أصبحت برامج تدريب المعلّمين، والشراكات بين المؤسسات التعليمية والقطاع الخاص، جزءاً من المشهد الجديد لضمان استدامة التحولات وتكاملها مع متطلبات سوق العمل.

2.  من المناهج الورقية إلى الذكاء الاصطناعي: مسار التحوّل

المرحلة الأولى: المناهج الورقية → الرقمية  (Digitization)

  • رقمنة المحتوى ليكون متاحًا بصيغ رقمية :
  •                                                                                                    (PDF، ePub، LMS).
  • إعادة تصميم الدروس لتكون تفاعلية (صور، فيديو، تمارين).
  • استخدام منصات إدارة التعلّم لتجميع المواد وتتبع تقدّم الطلاب.
  • توحيد الصيغ لتسهيل التحديث والتبادل.

المرحلة الثانية: الرقمية → الذكاء الاصطناعي  (AI-Enabled Curriculum)

  • التعلّم التكيفي: خوارزميات تتابع أداء الطالب وتقترح مسارات شخصية.
  • المحتوى المولّد: إنشاء أمثلة وأسئلة وتمارين جديدة وفق مستوى الطالب.
  • التحليلات التنبؤية: توقّع صعوبات الطلاب قبل وقوعها.
  • التقييم الذكي: اختبارات ديناميكية مع تغذية راجعة فورية.
  • المناهج القابلة للتحديث الذاتي: مراجعة المحتوى وربطه بأحدث المعارف العالمية.

القيمة المضافة

  • الانتقال من التعلّم الثابت إلى التعلّم الحي.
  • تخصيص مسار تعليمي فردي لكل طالب.
  • تزويد المعلّم ببيانات دقيقة للتدخل التربوي.

3.  إعادة هندسة التعليم: خارطة طريق

المرحلة الأولى – التأسيس (0 – 12 شهراً)

  • سياسات تنظيمية للذكاء الاصطناعي.
  • تجهيز البنية التحتية.
  • تدريب تمهيدي للمعلمين.
  • مختبرات تجريبية في مواد أساسية.

المرحلة الثانية – التوسّع (12 – 24 شهراً)

  • إدماج الكفايات في المناهج.
  • اعتماد التقييمات الأصيلة.
  • إطلاق مسارات تخصصية دقيقة.
  • شراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني.

المرحلة الثالثة – الترسيم والتكامل (24 – 36 شهراً)

  • إصدار شهادات دقيقة (Micro-Credentials).
  • إنشاء محافظ مهارات (Skills Wallets).
  • أتمتة الأعمال الروتينية للمعلمين.
  • تعميم التعليم التكيفي والتطبيقي.

مؤشرات النجاح (KPIs)

  • تحسّن 20% في التفكير النقدي وحل المشكلات.
  • تقليص الفجوة التعليمية بنسبة 30%.
  • 50% من الطلاب يستخدمون محافظ مهارات رقمية.
  • استعادة 4 ساعات عمل أسبوعياً للمعلم.
  • دمج التعليم التطبيقي في 70% من المناهج.

4.  التحديات والضوابط

  • المساواة وحقوق الطفل: منظمات مثل اليونسكو واليونيسف تؤكد أنّ إدخال الذكاء الاصطناعي في التعليم يجب أن يحترم المساواة، يمنع الانحياز، ويضمن خصوصية البيانات.
  • التشريعات: قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي (EU AI Act) صنّف التعليم ضمن “المخاطر العالية”، فارضاً معايير للشفافية والمساءلة والرقابة البشرية. هذه القوانين ستؤثر عالمياً.
  • المخاطر:
    • خطر تسطيح العقل عبر تقديم إجابات جاهزة تقلّل من مهارة التفكير النقدي.
    • خطر تعزيز الانحيازات وتعميق الفجوات الاجتماعية.
    • خطر استبدال الإبداع البشري بمحتوى آلي بلا عمق.
    • خطر تقليص دور المعلّم بدل تمكينه.

5.  ملامح العقد القادم في التعليم الذكي

  1. القدرات المركّبة: الإنسان يبتكر ويحكم أخلاقياً، والذكاء الاصطناعي يدير الروتين.
  2. مدرّبو الذكاء الاصطناعي (AI Tutors): رفقاء دائمون للطلاب يحررون وقت المعلّم للإرشاد.
  3. التعليم التطبيقي: عبر مختبرات افتراضية، مشاريع مجتمعية، تحديات صناعية.
  4. التعلّم التكيفي: مسارات فردية تضبط إيقاع كل طالب.
  5. الكفايات الأساسية: التفكير النقدي، الإبداع، التعاون، المرونة، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
  6. التقييم الأصيل: محافظ رقمية ومشاريع تطبيقية.
  7. الشهادات الدقيقة: أداة محورية للتوظيف القائم على الكفاءة.

6.  حالة الجامعات في لبنان  (2025)

  • السياسات: الجامعة اللبنانية أصدرت إرشادات وطنية، وAUB وLAU اعتمدتا سياسات صفّية واضحة.
  • التدريس والتقييم: تجارب متزايدة في التعلم الأخلاقي والتقييم الأصيل.
  • البرامج الأكاديمية: ماستر ودورات تطبيقية في الذكاء الاصطناعي.
  • النزاهة الأكاديمية: بعض الجامعات تستخدم أدوات كشف جديدة مع تحديات في الشفافية.
  • الأبحاث: دراسات محلية توثق مواقف الأساتذة والطلبة حول GenAI.

الفجوات:

  • تفاوت البنية التحتية والموارد.
  • نقص السياسات التفصيلية لحماية البيانات والتقييم.
  • غياب إطار وطني للشهادات الدقيقة.

7.  الذكاء الاصطناعي في المدارس في لبنان  (2025)

  • الواقع: بعض المدارس الخاصة بدأت بتجارب AI ، بينما تفتقر المدارس الرسمية للبنية التحتية.
  • التحديات: ضعف الإنترنت والأجهزة، غياب سياسات لحماية بيانات الأطفال.
  • الفرص: إدخال مختبرات تعليمية صغيرة (AI Labs) لتعليم مبادئ التفكير الحاسوبي، ومشاريع تطبيقية تعزز الإبداع.
  • التوصيات:
    • وضع سياسات وطنية لحماية الأطفال.
    • تدريب المعلمين على محو الأمية الرقمية والذكاء الاصطناعي.
    • تعزيز شراكات المدارس مع الجامعات.

 8. أهمية التطوير في المدارس والجامعات

لا يقتصر تطوير التعليم عبر الذكاء الاصطناعي على تحسين طرق التدريس والتعلّم، بل يمتد أثره إلى الجانب الاقتصادي والاجتماعي. فالاستثمار في مناهج ذكية، منصات تعليمية، وأبحاث مدعومة بالذكاء الاصطناعي يعني إعداد أجيال قادرة على شغل وظائف جديدة في مجالات مثل تحليل البيانات التعليمية، تصميم المحتوى التفاعلي، صيانة وتطوير البرمجيات التعليمية، والإدارة الرقمية للمدارس والجامعات. إن دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم يفتح أبواباً واسعة لسوق عمل حديثة، ويجعل المؤسسات التعليمية محرّكاً للنمو الاقتصادي، لا مجرد مركز لإنتاج الشهادات.

خاتمة

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل قوة إعادة تشكيل للتعليم على جميع المستويات: المدارس، الجامعات، والمناهج. إذا ما أُحسن استخدامه، يمكن أن يصبح وسيلة لتمكين المعلمين والطلاب، وتحويل المناهج إلى مختبرات حقيقية للإبداع والمهارات المركّبة. أما إذا تُرك بلا حوكمة وتشريعات، فقد يعمّق الفجوات ويهدد القيم التربوية.

إن العقد القادم هو عقد إعادة هندسة التعليم: من الورق إلى الذكاء الاصطناعي، ومن الصف إلى المنهج، حيث تتكامل التقنية مع الأخلاق، وتبقى الكفايات الإنسانية جوهر العملية التربوية، والذكاء الاصطناعي شريكاً لا بديلاً.

 المراجع:

  • Coursera. (2025). Micro-credentials and the future of talent. Retrieved from https://www.coursera.org
  • Lumina Foundation. (2025). Micro-Credentials Impact Report 2025. Retrieved from https://www.luminafoundation.org
  • MDPI. (2024). Micro-credentials for employability and inclusion in education. Education Sciences, 15(5), 525. https://doi.org/10.3390/educsci15050525
  • UNESCO. (2024). Survey on AI use in higher education institutions. Retrieved from https://www.unesco.org
  • UNESCO. (2023). Guidance for generative AI in education and research. Retrieved from https://cdn.table.media/assets/wp-content/uploads/2023/09/386693eng.pdf
  • World Economic Forum. (2025). Why AI literacy is now a core competency in education. Retrieved from https://www.weforum.org
  • Arxiv.org. (2025). Generative AI in education: Student skills and lecturer roles [Preprint]. Retrieved from https://arxiv.org/abs/2504.19673
  • Lebanese University. (2025). Governance and ethics of artificial intelligence in Lebanon: Guidelines. University press release.
  • American University of Beirut (AUB). (2024). Innovation and AI in teaching, learning, and assessment [Conference proceedings].
  • Lebanese American University (LAU). (2024). AI in Education: Guidelines and workshops. Center for Innovative Learning.
  • Itani, K., & Colleagues. (2025). Faculty perceptions on generative AI in Lebanese higher education. Lebanese University Research Report.
  • OECD. (2024). AI in education: Ethical use, assessment, and equity. Paris: OECD Publishing.
  • European Commission. (2024). EU Artificial Intelligence Act: High-risk applications in education. Brussels.
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أجرى سلسلة زيارات في طرابلس برفقة علي محمود العبد الله

السفير الصيني تشن تشواندونغ: شمال لبنان يمكن أن يلعب دورًا مهمًّا في الاقتصاد اللبناني وإعادة ...

الحاج يكشف عن خطة شاملة لإخراج قطاع الاتّصالات من سنوات الإهمال والانتقال من النطاق الضيّق إلى النطاق العريض

كشف وزير الاتّصالات شارل الحاج عن خطة شاملة لإخراج قطاع الاتّصالات من سنوات الإهمال، والانتقال ...

مرقص في تكريم نقابة مصممي الغرافيك الإعلام اللبناني: نحو خطوات تكاملية بين الإعلام والغرافيك

اقامت  نقابة مصممي الغرافيك  احتفالا تكريميا   للإعلام اللبناني برعاية وزير الإعلام المحامي د. بول ...