بقلم: د. ميلاد السبعلي
مقدّمة
يشهد العالم تحوّلًا جذريًا بفعل الذكاء الاصطناعي، الذي بات يثير أسئلة فلسفية حول معنى العقل والوعي ودور الإنسان. لم يعد الموضوع مجرّد إنجاز تقني، بل أصبح قضية وجودية بامتياز: هل يظل الإنسان مركز المعنى في عصرٍ تتقاطع فيه الآلة والروح؟ وكيف يمكننا أن نؤطّر الذكاء الاصطناعي ضمن رؤية فلسفية تمنع تحوّله إلى قوة تغتال إنسانيتنا؟ في مواجهة هذه التحديات، تستحضر الفلسفة نفسها لتعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والآلة، ولتقدّم حلولًا فكرية تتجاوز قصور المناهج القديمة. وهنا تبرز **الفلسفة المدرحية** التي صاغها أنطون سعاده، بوصفها رؤية شاملة تجمع المادة والروح، وتمنح الإنسان موقع القيادة الحضارية في عصر التحوّل.
أولًا: الذكاء الاصطناعي – الخصائص والقوة والضعف مقارنة بالإنسان
الذكاء الاصطناعي هو في جوهره نتاج تقني مادي، يقوم على الخوارزميات الرياضية والشبكات العصبية الاصطناعية، بما يمنحه قدرة هائلة على المعالجة والتعلّم. قوته تكمن في سرعته الفائقة، وفي دقته، وفي قدرته على التعامل مع كميات ضخمة من البيانات لا يستطيع العقل البشري أن يتعامل معها. وفي الوقت ذاته، يكشف الذكاء الاصطناعي عن نقاط ضعف جوهرية، إذ يفتقر إلى القيم والمعاني، ويظل عاجزًا عن توليد غايات مستقلة. بالمقابل، يمتلك الإنسان رغم محدوديته المادية بُعدًا آخر: هو البعد الروحي الذي يمنحه القدرة على إنتاج المعنى وصياغة الغاية.
الذكاء الاصطناعي يبرع في اكتشاف الأنماط المعقدة، وإيجاد حلول مبتكرة للمشكلات العلمية والرياضية. لكنه لا يعرف لماذا يقوم بما يقوم به. الإنسان، برغم بطئه النسبي وضعف قدراته الحسابية، يظل أكثر ثراءً لأنه يمتلك الإرادة الحرة والقدرة على إدخال البُعد الغائي في كل فعل يقوم به. وهنا يتضح الفارق الجوهري: الآلة أداة مادية فائقة، أما الإنسان فهو مصدر للروح والمعنى.
ثانيًا: المدارس الفلسفية المادية في مواجهة الظاهرة
تنطلق الفلسفات المادية من فرضية أساسية مفادها أن الوعي ليس إلا نتاجًا للمادة. هذا الموقف يجعلها تتعامل مع الذكاء الاصطناعي بوصفه تطوّرًا طبيعيًا للقدرات المادية والتقنية.
* الماركسية: ترى أن تطوّر الذكاء الاصطناعي ليس سوى مرحلة متقدّمة في تطوّر القوى المنتجة، وأنه سيؤدي إلى إعادة تشكيل علاقات الإنتاج. بالنسبة للماركسية، الوعي ليس سوى انعكاس للمادة في البنية الاجتماعية، وبالتالي فإن “الوعي الاصطناعي” يُفهم على أنه شكل جديد من انعكاس الواقع في آلة. وهذا ما يجعلها تراه جزءًا من مسار تاريخي مادي لا ينفصل عن الصراع الطبقي.(1)
* الوضعية عند أوغست كونت: تنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة علمية صِرفة، مهمتها قياس الواقع ومعالجته وفق قوانين تجريبية قابلة للرصد والقياس.(2)
لكن قصور هذه المدارس يظهر بوضوح حين نبحث عن موقع الإنسان في علاقتها بالتقنية. فهي تردّ كل شيء إلى المادة، وتتعامل مع الوعي باعتباره مجرّد نتاج مادي، مما يفرغ التجربة الإنسانية من بُعدها الروحي والقيمي. في ظل هذه الرؤية، قد يتحوّل الذكاء الاصطناعي من وسيلة لخدمة الإنسان إلى غاية بحد ذاته، تُقصي الإنسان بدل أن تكمّله.
ثالثًا: المدارس الفلسفية الروحية في مواجهة الظاهرة
أما الفلسفات الروحية، فتنطلق من مقولة أن الوعي منبعه الروح، وأنه يتجاوز المادة إلى ما هو سامٍ وغائي. هيغل مثلًا في المثالية الألمانية (3) يرى أن الفكر تعبير عن الروح المطلقة، وأن أي ذكاء اصطناعي يظل محاكاة بلا جوهر، لأنه يفتقر إلى الروح التي تُشكّل أساس الواقع والحقيقة. أما الفلسفات اللاهوتية (4) فتعتبر أن الروح عطية إلهية لا يمكن أن تنالها الآلة مهما تطوّرت. وبناءً عليه، فإن أي وعي تدّعيه الآلة لا يعدو أن يكون وهمًا حسابيًا فاقدًا للجوهر الروحي.
غير أن هذه المدارس، على الرغم من حفاظها على مركزية الروح، تقع في قصور آخر، إذ تميل إلى إنكار القيمة العملية للتقنية. فهي ترفض الاعتراف بإمكان دمج الذكاء الاصطناعي في مشروع إنساني حضاري، فتقف عند حدود النفي السلبي، متجاهلة ما يمكن أن ينتج عن هذه الأدوات من تحولات علمية واجتماعية كبرى. وهكذا، فإنها تحفظ الروح لكنها تفقد القدرة على بناء التكامل بين الإنسان والآلة.
رابعًا: الفلسفة المدرحية ومقاربتها للذكاء الاصطناعي
ترى الفلسفة المدرحية التي قدّمها أنطون سعاده (5) أنّ الإنسان وحدة جدلية تجمع بين المادة والروح، بحيث لا يمكن لأي بعد أن يستقل عن الآخر من دون أن يفقد معناه. فالمادة تمنح الوسائل والطاقة والأدوات، بينما الروح تضفي الغاية والمعنى والقيمة. على هذا الأساس، فإن مقاربة الذكاء الاصطناعي لا تُختزَل في بعده المادي الحسابي، ولا تُنفى بدعوى فقدانه للروح، بل يُوضَع في موقعه الصحيح: شريك مادي في خدمة المشروع الإنساني.
وحين ننظر إلى الذكاء الاصطناعي من هذه الزاوية، نكتشف أنّه يمثل طاقة مادية هائلة يمكنها أن توسّع قدرة الإنسان على الفعل، لكن هذه الطاقة تحتاج دائمًا إلى توجيه إنساني مستمد من البعد الروحي. هنا تصبح الفلسفة المدرحية ضمانة للتوازن: فهي تمنع اختزال الإنسان إلى مجرّد كائن حسابي كما في المادية، وتمنع أيضًا إقصاء التقنية كما في الروحية، بل تجعل العلاقة بين الإنسان والآلة علاقة تكامل لا خصومة، وشراكة لا بديل. تفاعل محيي لا تبعية عمياء.
غير أنّ تحقق هذه الرؤية مشروط بتعزيز الإنسان لملكاته العقلية والروحية عبر تطوير مهارات التفكير العليا. وتشمل هذه المهارات التفكير النقدي لفحص المسلمات وكشف الانحيازات، والتفكير الإبداعي لاختراع حلول جديدة، والقدرة على المقارنة والاستنتاج لفهم العلاقات المعقدة، والمنطق والتحليل لضبط الفهم، والوحي والتخيل والحدس لفتح أبواب الرؤى والمعنى. وإلى جانب ذلك، تبرز اليوم أهمية الذكاء العاطفي الذي يتيح للإنسان فهم ذاته ومشاعره والتفاعل مع الآخرين بتوازن، والذكاء الاجتماعي الذي يمكّنه من بناء علاقات وتعاون إنساني فعّال في مواجهة تعقيدات العصر. إنّ إهمال هذه القدرات يجعل الإنسان عرضة للذوبان في قدرة الذكاء الاصطناعي المادية، أما تفعيلها ضمن رؤية مدرحية شاملة فهو ما يضمن بقاءه قائدًا للتقنية لا تابعًا لها.
خامسًا: الوعي الاصطناعي – ماهيته والمقاربات الفلسفية
الوعي الاصطناعي يُعرَّف كحالة افتراضية قد تبلغها الآلات، بحيث تصبح قادرة على إدراك ذاتها ومحيطها، وعلى اتخاذ قرارات مبنية على تمثيل داخلي للعالم. هذا المفهوم أحدث انقسامًا بين المدارس الفلسفية: فالمادية اعتبرته وعيًا مكتملًا لا يختلف جوهريًا عن وعي الإنسان، لأنه انعكاس مادي معقّد. الروحية أنكرت عنه أي صفة للوعي ورأت أنه محاكاة خاوية بلا جوهر، لأنه يفتقر إلى الروح. أما الفلسفة المدرحية فقدّمت مقاربة أكثر تماسكًا: فهي لا تنفي إمكان وجود وعي اصطناعي، لكنها تحدّد طبيعته باعتباره وعيًا ماديًا صرفًا مهما تطوّر وتعقّد، يظل ناقصًا لأنه يفتقد إلى البعد الروحي الذي يجعل من وعي الإنسان وعيًا شاملًا جامعًا للمادة والروح معًا.
في هذا السياق، يتجلّى تفوق الفلسفة المدرحية، إذ إنها لا تفرط في تعظيم الآلة ولا تقع في إنكار دورها، بل تعترف بها ضمن إطارها المادي المحدود، وتؤكد أنّ الإنسان وحده يمتلك الوعي المدرحي الجامع للوسيلة والمعنى. لكن هذا التفوق الفلسفي لن يُترجم إلى واقع عملي إلا إذا استثمر الإنسان في تنمية مهارات التفكير العليا التي تشمل النقد، والابتكار، والمقارنة، والاستنتاج، والتحليل، والتخيّل، والحدس، إلى جانب الذكاء العاطفي الذي يصون توازنه النفسي، والذكاء الاجتماعي الذي يمكّنه من التفاعل البنّاء داخل المجتمع. فإذا كان الوعي الاصطناعي يتفوّق في الحساب والسرعة، فإن الوعي الإنساني يتفوّق في هذه القدرات المركبة التي تربط المادة بالروح، وتجعل من الإنسان مركز القيادة والمعنى.
وعليه، فإن الخطر الحقيقي للذكاء الاصطناعي لا يكمن في ذاته، بل في عجز الإنسان عن تنمية هذه المهارات ضمن إطار مدرحي شامل. فإذا ضعفت ملكات التفكير العليا، بما فيها الذكاء العاطفي والاجتماعي، فقد يتحوّل الإنسان إلى مجرد تابع للآلة، أما إذا تم تعزيزها، فإن الإنسان سيبقى المصدر النهائي للمعنى والغاية، وسيظل الذكاء الاصطناعي شريكًا ماديًا يخضع لقيادته الروحية.
خاتمة: المدرحية كحل إنساني عالمي
المادية أفرغت الإنسان من الروح، والروحية أنكرت قيمة المادة. أما المدرحية فقد جمعت بين الاثنين في جدلية تكاملية تجعل الإنسان مزيجًا حيًّا من المادة والروح. في عصر الذكاء الاصطناعي، لا يكفي أن نختزل الوعي في معادلات، ولا أن ننفي التقنية بدعوى نقص الروح، بل المطلوب رؤية شاملة تجعل الإنسان مركز الغاية، والذكاء الاصطناعي امتدادًا ماديًا لأدواته.
وتتجلّى أهمية هذه الرؤية أكثر حين ندرك أنّ مهارات التفكير العليا تمثّل الروح العملية للمدرحية. فالتفكير النقدي، والإبداعي، والمقارنة، والاستنتاج، والمنطق، والتحليل، إلى جانب الوحي والتخيل والحدس، كلها أدوات ضرورية، تكتمل اليوم مع الذكاء العاطفي الذي يوجّه الإنسان إلى فهم ذاته وعلاقاته، والذكاء الاجتماعي الذي يعزز تفاعله وتعاونه ضمن الجماعة. هذه المنظومة الفكرية–العاطفية–الاجتماعية هي الضمانة التي تجعل الإنسان قائدًا للآلة لا تابعًا لها، ومصدرًا دائمًا للمعنى مهما بلغت التقنية من تطوّر.
إن الفلسفة المدرحية بذلك تقدّم نفسها كحل إنساني عالمي، قادر على ترشيد مسار الذكاء الاصطناعي مهما بلغت درجة تطوّره، وضمان أن يبقى الإنسان في قلب العملية الحضارية، قائدًا للآلة لا تابعًا لها.
المراجع والهوامش
1. ماركس، كارل. *الأيديولوجيا الألمانية*. دار التقدم، موسكو، 1974.
2. كونت، أوغست. *دروس في الفلسفة الوضعية*. باريس، 1830–1842.
3. هيغل، جورج فيلهلم. *فينومينولوجيا الروح*. 1807.
4. توما الأكويني. *الخلاصة اللاهوتية*. القرن الثالث عشر.
5. سعاده، أنطون. *نشوء الأمم*. بيروت، 1938.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية