بقلم: د. ميلاد السبعلي
واجه المؤسسات المتشققة تحديات لا تنحصر في الخلافات التنظيمية أو الفكرية، بل تمتد إلى ظواهر نفسية واجتماعية معقدة تُحوّل أي حدث غير تقليدي إلى ساحة للتجاذب والانقسام.
فبدلاً من أن تكون المبادرات فرصاً لترميم اللحمة، تتحول إلى مادة للتجييش على منصات التواصل، حيث تتغذى الشعبوية على الغضب والشائعات، ويستغل بعض النفعيين هذه الأجواء لكسب الشعبية على حساب المصلحة العامة. في مثل هذا المناخ، تضعف قيمة العمل المؤسسي، وتترسخ الفردية والانقسامات كواقع طبيعي. هذا المقال يحلل أبرز هذه الظواهر، ويقترح خريطة طريق عملية لاستعادة الوحدة وبناء ثقافة مؤسسية صلبة.
أولاً: الظواهر النفسية والاجتماعية الأساسية
1. تفعيل الهوية الجمعية والتهديد الرمزي
في المؤسسات ذات البُعد الرسالي أو العقائدي، تصبح العضوية أكثر من مجرد انتماء تنظيمي: إنها هوية وجودية. لذلك، يُقرأ أي حدث غير تقليدي وكأنه تهديد للذات. في هذه اللحظة، ينفجر الأعضاء دفاعاً عن كيانهم النفسي قبل المؤسسة نفسها، ويختلط الولاء الشخصي بالشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة.
2. استدعاء الذاكرة الجمعية والجرح التاريخي
الأحداث الجديدة لا تُفهم بمعزل عن ذاكرة طويلة من الانشقاقات والخيبات. كل أزمة تُعيد إلى السطح رواسب الماضي، من الشهداء إلى الصراعات الداخلية، فيتضاعف الألم ويُقرأ الحاضر عبر عيون الماضي. هذا التراكم يخلق شعوراً بأن “الانقسام قدر”، فيرسخ الاستسلام أكثر من الأمل.
3. الغضب الأخلاقي (Moral Outrage)
حين يتعطل الشعور بالعدالة، يندفع الأعضاء إلى إطلاق أحكام مطلقة: “خيانة”، “وقاحة”، “انحطاط”. الغضب الأخلاقي يعطي صاحبه شعوراً بالتفوق المعنوي والبطولة الرمزية، لكنه يحوّل النقاش إلى محكمة شعبية، حيث المزايدة الأخلاقية تصبح معيار التفاضل بين الأعضاء، لا الكفاءة ولا الموضوعية ولا العقلانية ولا الحلول العملية.
4. شلال الشائعات والتفسيرات المبالغ فيها
الفراغ المعلوماتي يملأه الخيال الجمعي. ومع سرعة انتشار السوشيال ميديا، تتحول إشاعة صغيرة إلى قضية وجودية. الشائعة تُصبح أكثر تأثيراً من أي بيان رسمي، وتخلق دوامة من التجييش حيث يكسب مروجوها زخماً اجتماعياً وتفاعلاً رقمياً، ما يضاعف نفوذهم حتى لو كانوا على هامش الفعل المؤسسي.
5. فراغ المساءلة المؤسسية
غياب آليات شفافة للمحاسبة (محاكم مؤسساتية، لجان مستقلة) يدفع القواعد إلى البحث عن العدالة في الفضاء العام. فيتحول النقاش إلى “عدالة غوغائية”، حيث الأعضاء يحاكمون بعضهم في العلن بلا ضوابط، وهو ما يعمّق الشرخ بدل إصلاحه.
6. هيمنة الانفعال على العقلانية
الحدث غير التقليدي يثير استجابات عاطفية فورية، وغالباً ما تُقصي هذه الانفعالات التفكير الهادئ. الأصوات المعتدلة تُتَّهم بالضعف أو التخاذل، بينما يحظى الانفعال الحادّ بتأييد جماهيري سريع. النتيجة: خطاب يغذيه الغضب أكثر مما يغذيه المنطق.
7. استنزاف الطاقات وتثبيت الانقسام
استمرار هذه الظواهر يستنزف الطاقات الفكرية والتنظيمية للأعضاء، فتتحول المؤسسات إلى ساحات صراع داخلي دائم. ومع الوقت، يصبح الانقسام حالة طبيعية، وتذوب إمكانية الوحدة في ثقافة يومية تُسوّغ التشظي.
8. استغلال الفرديين والنفعيين للثغرات
في أجواء الانقسام، يبرز أفراد يبحثون عن مكاسب شخصية أو تعويض لفشلهم في العمل المؤسساتي. هؤلاء يستغلون أي خبر أو ثغرة لتجييش الأعضاء ضد القيادة أو ضد بعضهم البعض، ليس من أجل الإصلاح، بل لكسب الشعبية والظهور بمظهر “المرجعية”. يزدهر هذا السلوك لأن السوشيال ميديا تمنح مكافآت سريعة (الإعجابات والتعليقات) لمن يرفع شعارات رنانة ولو كانت سطحية.
9. ارتداد الأعضاء إلى الفردية وإضعاف قيمة المؤسسة
بعض الأعضاء، بفعل الإحباط أو غياب الأفق الوحدوي، يتراجعون عن الإيمان بالعمل الجماعي، ويعتبرون مجرد “بقائهم أعضاء” إنجازاً بحد ذاته. هذه الفردية السلبية تُسخف قيمة وجود مؤسسات موحَّدة وفاعلة، وترسخ الفئوية والعهود الضيقة. الأخطر أنها تخلق ثقافة “الانتماء السلبي”، حيث العضو لا يساهم في البناء لكنه يعيق أي مشروع توحيد أو إصلاح.
10. التشكيك التاريخي واستخدام اللغة المزدوجة
تراكم الانقسامات يولّد حالة من التشكيك التاريخي بمواقف الأطراف الأخرى، حيث كل نكسة تعيد إحياء أحكام مسبقة تشكك في صدقية أي مبادرة جديدة. ومع الوقت، تتحول هذه الشكوك إلى عائق مسبق لأي محاولة للحوار، فيلجأ المتحاورون إلى التقية واللغة المزدوجة، ويكتفون بعقد لقاءات فولكلورية لا تهدف إلى معالجة جوهر الانقسام، بل ربما إلى المحافظة على مكتسباتهم السلطوية الصغيرة داخل واقع الانشقاق القائم. هذه الظاهرة تقتل الثقة قبل أن تبدأ، وتحوّل اللقاءات من فرص إصلاحية إلى مجرد واجهات رمزية.
هذه الظواهر النفسية والاجتماعية المتعددة ليست مستقلة، بل متشابكة. الانفعال يفتح الباب للشائعة، والشائعة يستغلها النفعي والفردي، والفردية تُسخف قيمة المؤسسة، ما يكرس الانقسام ويمتص الطاقة. لذا، أي خريطة طريق نحو الوحدة يجب أن تعالج هذه الظواهر كمجموعة متكاملة، لا كحالات منفصلة.
ثانياً: خريطة طريق عملية لاستعادة الوحدة
** المرحلة الأولى: التهدئة والشفافية (0–3 أشهر)
الخطوات:
• إصدار بيانات واضحة وشفافة حول أي لقاءات أو مبادرات.
• تشكيل لجنة متابعة محايدة ونشر ملخصات دورية.
• وضع “قواعد سلوك رقمي” تنظّم النقاش وتحظر التحريض والاتهامات.
مؤشرات العمل:
• انخفاض نسبة التعليقات التحريضية.
• بداية ظهور أصوات تدعو للتروي والانتظار بدل الشحن.
** المرحلة الثانية: بناء الثقة وإشراك القواعد (3–9 أشهر)
الخطوات:
• إطلاق مشاريع ميدانية مشتركة (ثقافية، اجتماعية، إنمائية، تربوية، شبابية، فنية).
• عقد ورش حوار محلية لتدريب الأعضاء على إدارة الخلاف.
• إنشاء لجنة وساطة دائمة تضم شخصيات موثوقة.
مؤشرات العمل:
• تحول بعض النقاشات من اتهامات إلى اقتراحات.
• انتشار خطاب “التعاون العملي” بدلاً من خطاب الشتائم.
** المرحلة الثالثة: الإصلاح المؤسسي وبنية المساءلة (9–18 شهراً)
الخطوات:
• وضع آلية تطبيقية لعقد اللقاءات وإصدار البيانات.
• تفعيل لجان مساءلة مستقلة لمحاسبة القيادات عند التجاوز.
• صياغة سياسة إعلامية موحدة قبل نشر أي موقف رسمي.
مؤشرات العمل:
• تراجع الاتهامات الفردية لصالح المطالبة بإصلاح مؤسسي.
• بروز خطاب يركّز على العدالة الداخلية بدل المحاكمات الشعبية.
** المرحلة الرابعة: تثبيت الوحدة وتحويلها إلى ثقافة (18–36 شهراً)
الخطوات:
• تنظيم مناسبات مشتركة لإعادة ترسيخ القيم الجامعة.
• دمج تدريجي للهياكل التنظيمية ضمن خطة واضحة.
• إدخال برامج للتثقيف الرقمي والأخلاقي لتعزيز ثقافة الحوار.
مؤشرات النقاش:
• تحول اللغة من “نحن/هم” إلى “نحن معاً”.
• تراجع تداول الشائعات وزيادة الثقة بالبيانات الرسمية كمصدر أساسي للمعلومة.
ثالثاً: مؤشرات النجاح الكلية
• انخفاض الخطاب التحريضي بنسبة 70% خلال عام.
• إطلاق 2–3 مشاريع مشتركة خلال 18 شهراً.
• إصدار أول تقرير تقييم داخلي موحد خلال سنتين.
• تحقيق اندماج تنظيمي تدريجي خلال 3 سنوات.
خاتمة
الوحدة في المؤسسات ليست قراراً فوقياً بل عملية اجتماعية ونفسية معقدة، تتطلب معالجة متكاملة للظواهر التي تغذي الانقسام: من الشائعات إلى الفردية، ومن الغضب الأخلاقي إلى استغلال النفعيين. خريطة الطريق هذه توضح مساراً تدريجياً يبدأ بالتهدئة والشفافية، ويمر ببناء الثقة والإصلاح المؤسسي، وصولاً إلى تثبيت الوحدة كثقافة عامة مشتركة. المؤشر الأهم لقياس التقدم لن يكون البيانات الرسمية فقط، بل طبيعة النقاش العام: هل ما زال أسيراً للغضب والشائعات، أم بدأ يتحول إلى خطاب مسؤول يعكس ثقافة مؤسسية موحدة؟
لا بد من إدارة التغيير
كل عملية تغيير كبرى تثير بطبيعتها معارضة أو رفضاً من بعض الأطراف. التعامل مع هؤلاء يجب أن يتم بصبر وهدوء، بعيداً عن لغة التخوين والتجييش، عبر إقناعهم تدريجياً بأن المصلحة العامة تكمن في الوحدة لا في استمرار التشرذم. فالمؤسسات المنقسمة قد تدّعي كل منها امتلاك الشرعية الدستورية أو الأخلاقية أو العقائدية، لكن الشرعية الحقيقية لا تُبنى إلا على وحدة حقيقية وفاعلة تخدم المجتمع كله والغاية الكبرى للعمل.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية