حين يخاف الثابت من المتحرّك: عن الجماعات التي تُسخِّف الجديد وتُقدِّس المألوف

د. ميلاد السبعلي

المقدمة: حين يتحول الثبات إلى قناعٍ للخوف

الخوف من التغيير ليس عارضًا نفسيًا عابرًا، بل هو جزء من نسيج الإنسان وجماعته. فكل جماعة — صغيرة كانت أم كبيرة: مدرسة، شركة، عائلة، حزب، أو حتى أمة — تنسج حول نفسها طبقةً سميكة من العادات والمعتقدات، أشبه بجلدٍ يحميها من الفوضى ويمنحها شعورًا بالأمان. لكن هذا الجلد، مع مرور الزمن، يتحول إلى درعٍ يقاوم الضوء، فتصبح الحمايةُ سجنًا، والاستقرارُ قيدًا.

إنها آلية دفاعٍ جماعية في وجه المجهول، ودرعٌ ضد الشعور بالانكشاف حين تفرض الحياة أسئلتها الجديدة. فكل موجةٍ من التغيير — فكرية كانت أم اجتماعية أم تكنولوجية — تُعيد المشهد ذاته: من يرى فيها تهديدًا للهوية، ومن يراها ولادةً جديدة للجوهر.

لكن بين هذين الحدّين يعيش معظم الناس في مساحةٍ رمادية من القلق، حيث يتصارع الحنين مع الفضول، والخوف مع الرغبة في النمو.

الجماعات، مثل الأفراد، تمتلك ذاكرةً مشتركة تحفظ توازنها الداخلي. هذه الذاكرة، المكوّنة من تراكم العادات والتجارب والمرويات، تمنحها شعورًا بالثبات والانتماء، لكنها تُخفي في أعماقها خوفًا دفينًا من الانكسار. وحين تلوح في الأفق فكرةٌ جديدة، أو طريقة تفكيرٍ مختلفة، تستشعر الجماعة أن أحدهم يعبث بخيوطها الداخلية. فتنكمش كما تنكمش العين من وهج الضوء —لا لأنها تكره النور، بل لأنها تخاف من العمى المؤقت الذي يسبق الرؤية.

وهكذا يتحوّل الثبات شيئًا فشيئًا إلى قناعٍ للهوية: نرتديه لنبدو متماسكين، بينما نحن في الحقيقة نخفي وراءه ارتباكنا أمام سؤالٍ بسيطٍ لكنه مزلزل: هل ما نحافظ عليه هو جوهرنا… أم خوفنا من أن نفقده؟

_____________________

أولًا: المدرسة التي تُعلّم التكرار وتخاف التعلّم من جديد

في المدارس التي تتباهى بتاريخها الطويل، حيث تزيّن الجدران صورُ المعلمين الأوائل وشهاداتُ التفوق القديمة، يصبح الماضي هو المعيار الأعلى لكل شيء. الطبشورةُ واللوحُ ليستا مجرد أدواتٍ للتعليم، بل رموزٌ لهويّةٍ تربوية مقدّسة، وإيقاعٌ مألوف يمنح المكان سكينةً تشبه الطقس.

لكن حين تدخل التكنولوجيا — بشاشاتها المضيئة، أجهزتها المحمولة، وخوارزمياتها الذكية — يتغيّر إيقاع المكان. اللوح الذكي يتحدّث لغةً لا تشبه لغة الطباشير، والذكاء الاصطناعي يُجيب قبل أن يُكمل الطالب سؤاله. في تلك اللحظة، يشعر المعلم، الذي بَنى ذاته على كونه المصدر الأوحد للمعرفة، بأن الأرض تميد تحت قدميه. فقد كان هو النجمَ الوحيد في فضاء الصف، فإذا بالمعرفة الآن مجرّةٌ لا نهائية، فيها آلاف الشموس التي لا يمكن احتكار ضوئها.

ينتابه القلق: هل سيبقى ضروريًّا في زمنٍ تُجيب فيه الخوارزميات أسرع منه؟ هل ما زال دوره محوريًّا في عالمٍ صار فيه الطالب قادرًا على الوصول إلى المعرفة بلمسة؟

وهنا تبدأ آليات الدفاع التربوية بالعمل، كما لو أن العقل يحاول حماية نفسه من زمنٍ جديد لم يستعدّ له بعد.

• التسخيف الوقائي:

يُقلّل البعض من شأن الجديد قبل أن يجرّبه، كمن يخاف البحر فيصفه بالملوحة لا بالعمق. تُقال العبارات نفسها:

“الذكاء الاصطناعي لا يُعلّم القيم”.

“هذه الأجهزة تُفسد العلاقة بين الطالب والمعلم، وتفقد الطالب القدرة على التفكير”.

لكن هذه الاعتراضات ليست بحثًا في الأخلاق بقدر ما هي محاولة لطمأنة الذات. فرفض الأداة يُعفي من مسؤولية التعلّم عليها.

• التقديس الخفي للماضي:

يُرفع شعار “هكذا تعلّمنا وهكذا نجحنا” كدرعٍ في وجه المستقبل. ويتحوّل النجاح القديم إلى حجةٍ ضد التجديد، وكأن التاريخ يكفي ليمنح الصواب صفة الخلود. غير أن هذا التمسّك بالماضي لا ينبع من حبٍّ له، بل من خوفٍ من فقدان الدور. فالمعلّم الذي اعتاد أن يكون نجم المعرفة، يخشى أن يتحوّل إلى مرشدٍ بين مصادر لا تُحصى، وأن يفقد سلطته الرمزية أمام جيلٍ أكثر سرعةً وجرأةً منه.

وهكذا، يتحوّل الخوف إلى موقفٍ أخلاقي مزعوم، وتصبح المحافظة على “الهوية التربوية” ذريعةً لتجنّب مواجهة الذات. يتخفّى القلق وراء لغة الحذر، فيُصاغ الرفض بعباراتٍ تبدو نبيلة: “نريد أن نحمي القيم”، “لا نريد أن نفقد روح التعليم”. لكن الحقيقة أن ما يُحمى ليس القيم، بل الدور؛ ليس روح التعليم، بل صورة المعلّم كما اعتاد أن يراها.

وهكذا تتحول المدرسة من فضاءٍ للتعلّم إلى متحفٍ للمعرفة القديمة، تُقدَّس فيه الأدوات لا لأنها فعّالة، بل لأنها مألوفة. وحين تتوقّف المدرسة عن التعلّم، تُعلّم تلامذتها — من حيث لا تدري — أن الخوف من التغيير نوعٌ من الفضيلة، وتثبت عندهم الانصياع لا التجدّد.

_____________________

ثانيًا: المؤسسة التي تخاف من تغييرات المستقبل

في عالم الشركات والإدارات، يتغيّر الشكل ويبقى الجوهر واحدًا: الخوف من التغيير، وإن تنكّر بربطة عنقٍ أنيقة ولغةٍ مملوءة بالشعارات.

المؤسسة التي اعتادت أن تقيس نجاحها بالانضباط الهرمي، وبالخبرة الطويلة التي تراكمت عبر العقود، تشعر بالارتباك حين تقترب من عالمٍ جديد تتحكم فيه الخوارزميات أكثر من الأوامر الإدارية. لقد بُني استقرارها على نظامٍ بيروقراطيٍّ صلب، لا يسمح للمفاجآت أن تدخل من الباب. وحين يأتي التحوّل الرقمي، يدخل من النوافذ كلها دفعةً واحدة، فيبدو كزلزالٍ صامتٍ يُربك الجدران من دون أن يُصدر صوتًا.

في لحظةٍ كهذه، لا يهدّد الذكاء الاصطناعي الوظائف فحسب، بل يهدّد الهياكل والسلطات والعادات الخفية التي بنت عليها المؤسسة طمأنينتها. إنه يُربك ترتيب النفوذ قبل أن يُربك ترتيب المهام، فيوقظ خوفًا أعمق من مجرّد “تغيير في الأدوات” — خوفًا من أن يُعاد تعريف القوة نفسها.

فتبدأ آليات الدفاع المؤسسية بالعمل، في محاولةٍ لاحتواء الضوء كي لا يُعمي العيون التي لم تعتد رؤيته بعد:

• الاحتواء اللفظي:

تُعلن الإدارة دعمها المطلق للابتكار، تُطلق شعاراتٍ لامعة – “نحن في قلب الثورة الرقمية”، “التحول الرقمي جزء من ثقافتنا” — لكنها تُبقي آليات القرار كما هي. يُعلَّق شعار التحوّل على الجدار، بينما تبقى الملفات الورقية على المكاتب. يُمتصّ التغيير بالكلمات، لا بالفعل. إنها طريقة لتجنّب المواجهة مع الواقع دون الظهور بمظهر المتخلّف.

• إلغاء المفاجأة:

حين يتحدث أحدهم عن أدواتٍ جديدة أو عن الذكاء الاصطناعي، يردّ آخر بثقةٍ مصطنعة: “هذا امتداد لما نفعله منذ زمن”. وهكذا تُفرغ الثورة من معناها، وتُحوّل إلى تحديثٍ روتينيٍ مأمون. تُغلق الأبواب في وجه الدهشة، لأن المفاجأة تهزّ السلطة أكثر مما تهزّ الجداول الزمنية.

• تمجيد الخبرة كقيد:

تُرفع سنوات الخدمة كدرعٍ ضدّ الجديد: “نحن نعرف السوق منذ ثلاثين عامًا”. وكأن مرور الزمن يضمن الصواب إلى الأبد، وكأن السوق ينتظرهم. ما كان يومًا قيمةً يصبح ذريعةً، وما كان خبرةً يتحوّل إلى سورٍ يمنع الهواء من الدخول.

بهذه الطريقة، تبقى المؤسسة واقفةً في مكانها، تصفّق للحداثة لفظًا وتخافها فعلًا. تتحدث بلغة المستقبل، لكنها تُفكّر بعقل الماضي. تحتفي بالتغيير في الاجتماعات، وتلغيه في القرارات.

فالخطر الحقيقي لا يأتي من الخوارزميات، بل من الجمود الذي يختبئ خلف شعار التطوير. فالتاريخ لا يحمي أحدًا من المستقبل، والمؤسسة التي لا تتغيّر بإرادتها، يتكفّل الزمن بتغييرها دون استئذان.

_____________________

ثالثًا: الجماعات العقائدية… حين يُقدَّس الجدار ويُنسى الضوء

في الجماعات العقائدية، الدينية منها والفكرية، يبلغ الخوف من التغيير ذروته. فهنا، لا يكون التهديد في خسارة وظيفةٍ أو سلطةٍ أو موقع، بل في خسارة المعنى نفسه. الفرد في هذه الجماعة لا يرى ذاته خارجها، والانتماء ليس خيارًا فكريًا، بل هويةٌ وجوديةٌ كاملة، كأن حياته تدور داخل جدارٍ من الإيمان يصعب تجاوزه دون أن ينهار العالم من حوله.

حين يظهر نمط جديد من التفكير، أو يطلّ عصرٌ مختلفٌ بمفاهيمه ولغته وأدواته وسلوكياته وأخلاقه العملية، تبدأ سلسلةٌ دقيقة من الآليات النفسية الدفاعية التي تتقنها هذه الجماعات بوعيٍ أو بدونه، دفاعًا عن التماسك الذي يمنحها شعورها بالخلود:

• تحويل الثورة إلى استمرارٍ طبيعي:

تُعاد صياغة أي فكرة جديدة ضمن لغة الماضي، حتى تبدو مألوفة وغير مقلقة. يُقال: “ما يقوله هؤلاء هو ما قلناه منذ البداية، ولكن بأسلوبٍ مختلف”. هكذا يُستوعَب الجديد دون أن يُعترف به، فيتحوّل التغيير إلى ظلٍّ من ظلال القديم، وتبقى العقيدة في مكانها، وقد أفرغت الثورة من معناها. إنها طريقة ذكية لامتصاص التهديد دون مواجهةٍ صريحة معه.

• إلغاء المفاجأة وإطفاء الدهشة:

كل ما لا يُفهم يُقال عنه “ليس جديدًا”. وكل فكرةٍ غريبة تُطفأ قبل أن تشتعل. فالدهشة خطرة، لأنها تهزّ يقين الجماعة، واليقين هو عمودها الأخير. إنهم يفضّلون عالمًا مألوفًا على عالمٍ حقيقي، لأن المألوف يمنحهم الأمان، ولو كان خاليًا من الحياة.

• الخلط بين الهوية والمعرفة:

المعرفة لا تُطلب لفهم الواقع، بل لحماية الانتماء. ويُقاس الصواب بمدى الإخلاص للجماعة، لا بمدى دقّة الفكرة. من يفكر بطريقةٍ مختلفة يصبح خصمًا، لا محاورًا. وكما قال أدونيس: “القارئ العربي يقرأ أفكارك ليُثبّت أفكاره، فإن لم تشبهه، صار ضدك فورًا”.

وهكذا يُلغى التفكير النقدي لصالح الطمأنينة الانتمائية، ويُستبدل البحث عن الحقيقة بالبحث عن التشابه.

• تمجيد الاستمرارية بدل الحيوية:

تُقاس قوة الجماعة بعدد السنين لا بعمق التطور. تُصبح العقود الطويلة دليل بقاء، حتى لو كان البقاء خاليًا من الحركة. الزمن يتحوّل من مساحةٍ للنمو إلى جدارٍ للتفاخر، ومن ميدانٍ للتجديد إلى مقبرةٍ للأفكار. فالاستمرارية، حين تفقد روحها، لا تدل على الحياة، بل على طول الموت.

بهذه الآليات، تتحوّل العقيدة من منارةٍ للفكر إلى سياجٍ يحمي الخوف من الضوء. تتراجع الفكرة الأصلية التي وُجدت لتفتح نوافذ على المستقبل، والمبادئ التي وُجدت لتكون قواعد انطلاق للفكر، وتتحول إلى نظامٍ مغلقٍ يخشى الهواء الجديد. الطقوس، التي كانت في يومٍ من الأيام وسيلةً لبناء التماسك والوجدان، تتحوّل إلى غايةٍ بحد ذاتها، تُمارَس لتبرير الذات لا لتغذيتها.

وهكذا يصبح الدفاع عن العقيدة دفاعًا عن الجدار الذي يُحيط بها، لا عن النور الذي أنشأها. وتتحول الجماعة إلى مرآةٍ لا ترى إلا نفسها، وإلى ذاكرةٍ تُكرّر الماضي كأنها تصليه صلاةً أبدية، وإلى يقينٍ جامدٍ يخاف السؤال أكثر مما يخاف الخطأ.

فبدل أن تكون العقيدة مشروعًا حيًّا للفهم، تُصبح ملاذًا من الارتباك، وبدل أن تزرع الشجاعة في قلوب أتباعها، تُورثهم طمأنينةً زائفة، طمأنينةَ من لا يتحرك فيظن نفسه ثابتًا، ومن لا يتغيّر فيظن نفسه على حق.

إنّ أعظم مأساةٍ للجماعات العقائدية ليست في خطئها الفكري، بل في خوفها من أن تكون على خطأ. فحين يخاف الفكر من المراجعة، يتحوّل الإيمان إلى قيد، والقداسة إلى ذريعةٍ للصمت، والجدار — الذي بُني لحماية النور — إلى ظلٍّ كثيفٍ يُطفئه.

_____________________

رابعًا: من المبادئ إلى الطقوس — حين يختلط الأصل بالوسيلة

كل فكرٍ عظيمٍ يولد حُرًّا، متّقدًا بالحياة، ثم يبدأ رحلته الطويلة نحو الأسر. يُترجم إلى أنظمةٍ وشعاراتٍ وطقوسٍ تنظّم حضوره في الواقع، لكن ما وُضع يومًا ليكون وسيلةً للفهم يتحوّل مع الزمن إلى غايةٍ بحد ذاته. تبدأ الحكاية من نيةٍ صافية: ترتيب الفكرة، صونها من التشتت، وإعطاؤها شكلاً يضمن استمرارها. لكن شيئًا فشيئًا، يتقدّم الشكل على الجوهر، وتعلو الأصوات المدافعة عن المظاهر بدل المعاني. يختلط الأصل بالوسيلة، والمبدأ بالعادة، فتُصبح الفكرة التي خُلقت لتكون حركةً — تمثالًا يُزيَّن لا يُناقش.

حينها يبدأ الالتباس القاتل: يُدافع الناس عن الوسائل كأنها غايات، وعن الرموز كأنها جوهر. وحين يظهر من يقول إن الزمن تغيّر، وإن الحلول القديمة لم تعد تصلح لعالمٍ جديد، يُتَّهم بأنه يهدم “الأسس” أو يفرّط بـ“الهوية”. لكن الحقيقة أن الدفاع عن الفكر لا يعني الدفاع عن شكله، وأن قداسة الوسيلة لا تُغني عن صدق الغاية.

فالطقوس التي وُجدت يومًا لتوحّد الجماعة وتنظّمها، تتحوّل مع الوقت إلى جدارٍ يعزلها عن الحياة. والمظاهر التي كانت وسيلةً للتماسك تصبح عائقًا للتجدّد، لأن الجماعة تخشى أن أي تعديل في الشكل سيُربك يقينها بالمعنى. وهكذا يُستبدل السؤال بالتكرار، ويُفضَّل الأمان على الحقيقة، ويُتَّخذ الثبات دليلًا على الصواب، لا على الجمود.

المأزق لا يكمن في التمسك بالماضي، بل في العجز عن فهمه في ضوء الحاضر. فكل مبدأٍ عظيمٍ يحتوي عنصرين:

• ثابتًا هو القيم الكبرى التي لا يمسّها الزمن — كالعدالة، والحرية، والمبادئ، والكرامة، والمعرفة.

• ومتحوّلًا هو الأدوات والطقوس والوسائل التي تعبّر عنها في زمنٍ معين.

وحين تفشل الجماعة في التمييز بين هذين البعدين، تبدأ بالانفصال عن الواقع. تتكلّم لغةً لم يعد أحد يفهمها، وتعيش في زمنٍ موازٍ لا يسكنه سوى الذكريات. يبتعد عنها الشباب الذين يبحثون عن فكرٍ حيّ، فيجدون أمامهم نصوصًا محفوظةً بلا روح، وأناشيدَ تردّدها أجيالٌ لا تعرف معناها. يكتشفون أن ما يُقدَّم لهم لم يعد فكرًا، بل نوستالجيا منظّمة.

الذين يبقون داخلها لا يفعلون ذلك إيمانًا، بل حنينًا. لكن الحنين، مهما كان نبيلاً، لا يصنع مستقبلًا. إنه يعيد رسم الماضي بألوانٍ باهتة، ويُسكّن القلق بدل أن يجيب عليه. وحين يُصبح الوفاء للماضي أهم من الإخلاص للحياة، تبدأ الجماعة بالموت البطيء وهي تردّد أنها “صامدة” و”ثابتة”.

إن الحلّ لا يكون في رفض التراث، بل في تحريره من التحنيط. أن نُعيد طرح المبادئ بلغة العصر لا يعني خيانتها، بل إنقاذها من الشيخوخة. أن نُراجع الطقوس لا لننقضها، بل لنعيدها إلى وظيفتها الأولى: أن تكون جسورًا للمعنى والجوهر، لا جدرانًا له.

فالمجتمعات والأفكار التي لا تُجدّد أدواتها تفقد قدرتها على الحياة، والجماعات التي لا تُميّز بين الثابت والمتحوّل تُحوّل الإيمان إلى متحف، والثبات إلى حجرٍ يوضع فوق قبر الفكرة التي كانت يومًا حيّة.

_____________________

خامسًا: الخيط الخفي بين الأفراد والجماعات

من المعلّم الذي يخاف أن يُستبدل، إلى المدير الذي يخاف أن يُلغى، إلى المؤمن أو العضو الذي يخاف أن يُسلب منه معنى وجوده —الموقف واحد: الخوف من الذوبان.

فكل تغييرٍ يحمل في طيّاته احتمال الانكشاف. كل فكرةٍ جديدة تُجبر الإنسان على النظر إلى نفسه في مرآةٍ لم يختَرها، وتدعوه إلى مواجهة صورةٍ لم يكن مستعدًّا لرؤيتها. وحين يحدث ذلك، لا يرفض الإنسان الفكرة الجديدة لأنها باطلة، بل لأنها تُهدّد توازنه الداخلي الذي اعتاد عليه.

إنها لحظةٌ عميقة من القلق الوجودي: حين لا نعرف إن كنّا ما زلنا نحن، بعد أن تغيّر كلّ شيء من حولنا. وحين يشعر الفرد، أو الجماعة، بأن وجوده مهدّد، يبدأ بترتيب العالم من جديد، لكن ليس ليكتشف الحقيقة، بل ليحافظ على ذاته في المركز، ولو على حساب الحقيقة نفسها.

فالمعلّم يُسخّف الذكاء الاصطناعي ليحمي سلطته، والمدير يُشكّك في التحوّل الرقمي ليصون نفوذه، والمؤمن يُهاجم التفكير الجديد ليحفظ يقينه. الآلية واحدة، تتبدّل وجوهها فقط.

إنها آلية الدفاع الكبرى: تسخيف ما لا يُفهم، تبرير ما لا يُراجع، وتقديس ما يمنح الأمان. وهكذا يتحوّل الدفاع عن “القيم” إلى دفاعٍ عن الذات، ويغدو ما نسمّيه “وفاءً للمبادئ” في كثيرٍ من الأحيان خوفًا من إعادة تعريف أنفسنا.

وحين تتكرّر هذه العملية عبر الزمن، تتحوّل الجماعة من كيانٍ حيٍّ قادرٍ على التجدّد، إلى قناعٍ نفسيٍّ يمنح الطمأنينة ويخفي هشاشة الداخل. تصبح الهوية درعًا ضدّ التغيير بدل أن تكون جسرًا نحوه، ويصبح العقل الجمعي وسيلةً لتسكين القلق، لا لفهم الحياة.

إن الخيط الذي يربط الأفراد بالجماعات في وجه التغيير ليس خيط المبدأ، بل خيط الخوف من الفقدان — فقدان الدور، وفقدان المكانة، وفقدان معنى الوجود. وحين يصبح الخوف من التبدّل أقوى من الرغبة في الحياة، يتحوّل الثبات إلى موتٍ بطيءٍ مغلّفٍ باليقين.

_____________________

سادسًا: إدارة التغيير — بين الوفاء والتحنيط

ليست الدعوة إلى التغيير نكرانًا للجذور، بل عودةٌ إليها من دون غبار العادة. فمن لا أصل له، تقتلعُه أول ريح، لكنّ الأصل لا يُزرع ليُكبِّل، بل ليُغذّي.

الثبات الحقيقي ليس في الوقوف، بل في القدرة على النموّ من داخل الأرض نفسها. فالوفاء للفكرة لا يعني تحنيطها، كما أن احترام الماضي لا يعني السكن فيه. إنّ إدارة التغيير لا تقوم على كسر القديم، بل على تحريره من تصلّبه، تمامًا كما تُروى الشجرة لا لتُقتل جذورها، بل لتستعيد خضرتها.

في المدرسة، يمكن للتقليد أن يتعايش مع التكنولوجيا حين يتحوّل التعليم إلى رحلة اكتشافٍ مشتركة وبحث وتفاعل وتفكير، لا تلقينٍ أحاديّ. حين يترك المعلم مكانًا للآلة، لا ليسلمها الدور، بل ليوسّع الأفق. وفي الشركة، يمكن للخبرة أن تتحوّل من امتيازٍ هرمي إلى طاقةٍ معرفية متكاملة مع الذكاء الاصطناعي —حين تصبح التجربة وقودًا للتجديد لا ذريعةً للجمود. وفي الجماعات الفكرية أو الدينية، يمكن للطقوس أن تبقى رموزًا جميلةً للانتماء، ما دامت لا تُستَخدم كبدائل عن العقل، ولا تتحوّل إلى أقفالٍ على الوعي.

فالفكر لا يموت حين تتغيّر أدواته، بل حين يُمنَع من التغيّر. والماضي لا يُهان حين يُراجَع، بل حين يُقدَّس على حساب الحاضر. التجديد ليس خيانةً للثابت، بل إنقاذٌ له من الشيخوخة، والمحافظة ليست جمودًا إذا كانت تبحث عن سُبلٍ جديدةٍ لحماية جوهر الفكر لا الشكل.

إنّ إدارة التغيير هي فنّ الموازنة بين الجذور والأجنحة، بين ما يجب أن يبقى ليمنحنا الثبات، وما يجب أن يتغيّر ليمنحنا الحياة. فمن يكتفي بحراسة الجذور يدفن نفسه فيها، ومن يطير بلا جذورٍ يضيع في الهواء.

النهضة الحقيقية — في التعليم، في الإدارة، وفي الفكر —تبدأ حين ندرك أن الزمن لا ينتظر أحدًا، وأنّ الوفاء للماضي لا يكون بالانحناء له والعيش فيه، بل بأن نحمل نوره ودروسه معنا ونحن نخطو في اتجاه الغد.

_____________________

الخاتمة: في حكمة التحوّل وثبات الجذور

العصر لا ينتظر المترددين. فمن يخاف التجدد يموت واقفًا، كتمثالٍ في ساحةٍ هجرها المارّة، يتآكل ببطءٍ بينما يتوهّم الصلابة.

الثبات الحقيقي ليس أن نبقى كما نحن، بل أن نعرف كيف نظلّ أنفسنا ونحن نتغيّر. فالجذور لم توجد لتقيدنا في الأرض، بل لتمنحنا غذاء الارتفاع. والأصل لا يُكرَّم بتحنيطه، بل بإبقائه حيًّا في وجدان الزمن.

إنّ التحدي الأكبر اليوم — للأفراد كما للجماعات —ليس في مواجهة التغيير، بل في مواجهة الخوف من التغيير. الخوف من أن تفقد الجماعة ملامحها إن جرّبت، ومن أن يفقد الفرد معناه إن خرج من دائرة المألوف. لكنّ الهوية لا تُصان بالجمود، بل بالوعي. ومن يظن أن الثبات هو عدم الحركة، لم يفهم أن الحياة نفسها حركةٌ مستمرة في توازنٍ دائم بين الثابت والمتحوّل.

في عصر المعرفة والذكاء الاصطناعي، لم تعد القوة في امتلاك المعلومة، بل في القدرة على إعادة خلقها، وقراءة العالم من جديد بعيونٍ مرنةٍ وقلوبٍ شجاعة.

فلنحفظ من الماضي ما يمنحنا معنى الوجود، لا ما يسلبنا الحياة. ولنؤمن بأنّ الفكرة التي لا تتجدّد، تفقد حقّها في الوجود. التحوّل ليس خيانةً للأصل، بل وفاءٌ له في صورته الأجمل، فالأصل حين وُجد، وُجد ليكون حيًّا لا مُحنّطًا.

فلنكن أوفياء للحركة لا للجمود، للبحث لا للحفظ، ولنسمح للعقل أن يتنفّس، وللروح أن تتعلّم من رياح الزمن بدل أن تخافها.

فالفكر كالشجرة: جذوره في الأرض، لكنّ فروعه تمتد نحو السماء لأنها تؤمن أن الريح ليست عدوًّا، بل رسول الحياة.

ومن لا يتجدّد، يتكرّر، ومن يتكرّر، يختفي —أما من يتغيّر بوعيٍ وجرأة، فهو الذي يمنح للحياة معناها، وللأصل خلوده الحقيقي.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أجرى سلسلة زيارات في طرابلس برفقة علي محمود العبد الله

السفير الصيني تشن تشواندونغ: شمال لبنان يمكن أن يلعب دورًا مهمًّا في الاقتصاد اللبناني وإعادة ...

الحاج يكشف عن خطة شاملة لإخراج قطاع الاتّصالات من سنوات الإهمال والانتقال من النطاق الضيّق إلى النطاق العريض

كشف وزير الاتّصالات شارل الحاج عن خطة شاملة لإخراج قطاع الاتّصالات من سنوات الإهمال، والانتقال ...

مرقص في تكريم نقابة مصممي الغرافيك الإعلام اللبناني: نحو خطوات تكاملية بين الإعلام والغرافيك

اقامت  نقابة مصممي الغرافيك  احتفالا تكريميا   للإعلام اللبناني برعاية وزير الإعلام المحامي د. بول ...