فرنسا ماكرون 2025: من “جمهورية الحسم” إلى “ديمقراطية التعطيل”

كيف تحوّل عجز الإصلاح إلى عجز مالي… ثم إلى عجزٍ عن بناء أغلبية

بقلم: د. خالد عيتاني

تمهيد: سؤال اللحظة الفرنسية

في عام 2017 قدّم إيمانويل ماكرون نفسه بوصفه “الليبرالي الإصلاحي” القادر على كسر الاستقطاب التقليدي يمينًا ويسارًا. بعد ثماني سنوات، تبدو الحصيلة مفارِقة: اقتصادٌ مكبّل بديون تاريخية ونموّ هزيل، وسياسةٌ تعيش “أزمة برلمانية دائمة” تُسقِط حكوماتٍ دون أن تلد بدائل. خيط الحكاية أن مشروع “الحسم” اصطدم بثقافة مؤسسية لا تُجيد حكم الائتلافات، فانزلق البلد من عجز الإصلاح إلى عجز مالي، ثم إلى عجزٍ عن بناء أغلبية. هذه ليست أزمة عابرة، بل تحوّل بنيوي في الجمهورية الخامسة نفسها.

أولًا: التسلسل التاريخي للأزمة — من “السترات الصفر” إلى “برلمان معطّل

صدمة الشارع (2018–2019): احتجاجات “السترات الصفر” كشفت هشاشة العقد الاجتماعي أمام إصلاحاتٍ تمسّ القدرة الشرائية.

سنوات الجائحة (2020–2021): سياسات “مهما كلّف الأمر” حمت الدخول، لكنها رفعت الدين العام ووسّعت العجز.

معركة التقاعد (2023): تمرير الإصلاح بالأداة الدستورية (49.3) ولّد كلفةً سياسية تراكمت.

حلّ البرلمان المبكّر (2024): مقامرة انتخابية انتهت ببرلمان مُعلَّق بثلاث كتل (يسار/يمين متطرّف/وسط)، بلا أغلبية ولا ثقافة ائتلاف. منذ ذلك الحين تعاقبت حكومات أقلّية قصيرة العُمر، وآخرها بقيادة سِباستيان لوكورنو الذي أوقف إصلاح التقاعد مؤقتًا لدرء حجب الثقة—دليل أزمة حكم أكثر من كونه انتصارًا تكتيكيًا.

خلاصة المرحلة: بنيةُ الجمهورية الخامسة “رئاسية-برلمانية” لكنها غير مُهيّأة لائتلافات مستقرة. ومع برلمان مُجزّأ، صار كلّ إصلاحٍ رهينةَ مساومات مؤلمة في الميزانية والضرائب.

ثانيًا: الاقتصاد كمرآة للسياسة — دينٌ تاريخي ونموٌّ بلا زخم

دين عام قياسي: بلغ الدين نحو €3.4 تريليون في الربع الثاني 2025 (أكثر من 3.4 تريليون يورو)، ما يعادل نحو 110%+ من الناتج وفق منهجية ماستريخت. هذا المستوى يُقارب رُبع دين منطقة اليورو، ويجعل أي صدمة عوائد فائدة مؤلمة ماليًا.

عجز متكرر: عجز 2024 عند 5.8% من الناتج — بما يعادل تقريبًا €169.6 مليار — وهو مصدر تضخيم تلقائي للدين عامًا بعد عام.

نموّ هزيل: توقعات 2025 تدور حول 0.6–0.7%؛ لا يكفي لامتصاص كلفة خدمة الدين ولا لتقليص البطالة البنيوية.

إنذار الائتمان: وكالة فيتش خفّضت التصنيف إلى A+ (12 أيلول/سبتمبر 2025) لغياب مسار مقنع لاستقرار الدين وسط شلل سياسي — في أدنى درجة لفرنسا لدى الوكالة. الخفض يرفع كلفة الاقتراض ويضيّق هامش المناورة في الموازنة.

مؤشّرات اجتماعية مقلقة: نسبة الفقر النقدي بلغت 15.4% في 2023 (9.8 مليون شخص) — أعلى مستوى منذ بدء السلسلة الإحصائية عام 1996 — فيما سجلت إفلاسات الشركات حوالَي 67.4 ألف حالة خلال 12 شهرًا حتى آب/أغسطس 2025؛ وهو أعلى رقم مطلق في القارة العام الماضي.

ثالثًا: لماذا تعمّقت الأزمة؟ — “مثلث التعثّر” (مالية–سياسة–مصداقية)

أزمة مالية بلا إجماع: دينٌ كبير وعجزٌ مستمرّ، وحاجةٌ لخفض الإنفاق أو تعظيم الإيرادات… لكنّ البرلمان المعلّق يجعل أي ميزانية “فخًا سياسيًا”. حكومة لوكورنو أوقفت إصلاح التقاعد، وأبقت ضرائب استثنائية على الشركات والأثرياء لتمرير الموازنة، فهدّأت الأسواق وقسّمت الحلفاء وأغضبت مجتمع الأعمال الذي يتّهم السلطة بالتراجع عن وعودها المؤيّدة للتنافسية.

أزمة حكم: غياب ثقافة الائتلافات جعل “الحكم بالمذكّرات التصحيحية” هو القاعدة — ترقيعاتٌ ضريبية بدل رؤيةٍ استثماريّة طويلة الأمد. الاشتراكيون يستثمرون هشاشة الحكومة لفرض أجندة ضريبة ثروة جديدة (اقتراح “زوكمان”)، ما يزيد عدم اليقين الضريبي.

أزمة مصداقية: خفض التصنيف الائتماني وخطاب “الاستثناءات الضريبية المؤقتة” يضربان ثقة المستثمرين. كل نقطة أساس إضافية على عوائد السندات تعني ملياراتٍ في خدمة الدين تؤكل من التعليم والصحة والبنية التحتية.

رابعًا: التداعيات على فرنسا — خمس حلقات مترابطة

  1. ميزانية مُحاصرة: أي تراجع طفيف في النمو يترجم تلقائيًا إلى فجواتٍ في العجز، والمناورة محدودة تحت رقابة وكالات التصنيف والأسواق.
  2. تنافسية متآكلة: ضبابيةٌ ضريبية تُضعف قرارات الاستثمار المحلي والأجنبي؛ مجتمع الأعمال (Medef/Afep) يلوّح بتأجيل المشاريع.
  3. تصلّبٌ اجتماعي: اتساع الفقر وتزايد الإفلاسات يغذّي السخط السياسي ويقلّص شهية الرأي العام لأي إصلاح مؤلم — حلقة ارتجاع سلبية.
  4. تآكل النفوذ الأوروبي: حين تنشغل باريس بميزانيتها البحتة، يتقدّم آخرون إلى مقعد القيادة في أجندات الطاقة والصناعة والدفاع.
  5. اختبار الجمهورية الخامسة: الأزمة لم تعد “ظرفية”، بل ثقافية–مؤسسية: نظام انتخابي رئاسي بطابع “الغالب يأخذ كل شيء” في بلدٍ تعدديّ يحتاج برلمانات ائتلافية.

خامسًا: أثر الصدع الفرنسي على أوروبا

  • الفيدرالية المالية الناعمة في الميزان: باريس ركيزة “الصفقة الكبرى” في أوروبا (دعم صناعي/طاقة/دفاع مقابل انضباط مالي). ضعفها يعرقل قواعد العجز والدَّين الجديدة ويبطئ مشروعات السيادة الصناعية الخضراء.
  • اليورو وسوق السندات: اتساع فروق العوائد (OAT مقابل Bund) يرفع قسط المخاطرة الأوروبي، ويجبر البنك المركزي على تواصلٍ أكثر حذرًا في التشديد أو التيسير.
  • سياسات الثراء والضرائب: دفعُ الاشتراكيين نحو “ضريبة ثروة أوروبية” من بوابة باريس قد يعيد فتح نقاش وحدة القاعدة الضريبية على مستوى الاتحاد — فرصةٌ لليسار الأوروبي ومصدر قلقٍ لعواصم رأس المال.

سادسًا: الارتداد الشرق أوسطي — ثلاث قنوات انتقال

  1. الدبلوماسية والأمن: تقليص الموارد قد يخفّض حضور فرنسا في ملفات المتوسط والساحل والقرن الإفريقي، ويعيد توزيع أعباء لبنان وسوريا وليبيا على شركاء آخرين (الاتحاد الأوروبي/الناتو/الولايات المتحدة).
  2. الطاقة والصناعات الكبرى: شركاتٌ فرنسية كبرى في الطاقة والبنى التحتية والدفاع قد تُبطئ توسّعها أو تعيد تسعير المخاطر؛ هذا يطال العقود في الخليج وشمال إفريقيا.
  3. الهجرة والحدود: ضعف التماسك الأوروبي يُصعّب تنسيق سياسات الهجرة واللجوء، ما ينعكس على دول العبور جنوب المتوسط.

سابعًا: سيناريوهات الخروج — “صفقة كبرى” أو “تثبيت الأزمة

  • سيناريو الانفراج: تسوية ائتلافية حدٍّ أدنى لتمرير موازنة ثلاثية السنوات، تقييد الإنفاق الجاري، حماية الاستثمار المنتج، وإصلاحات سوق العمل بروحٍ توافقية؛ تزامنًا مع حزمٍ صناعية أوروبية تدعم التحوّل الأخضر والرقمنة.
  • سيناريو الاستطالة: استمرار حكومات الأقلية وميزانيات ترقيعية وضرائب استثنائية تُبقي الأسواق هادئة مؤقتًا وتُبقي الاستثمار مُرتابًا — فتتراكم الكُلف السياسية حتى 2027.
  • سيناريو القطيعة: انتخابات جديدة لا تُنهي التعليق البرلماني، وتدفع نحو مراجعة دستورية جزئية (نظام انتخابي مزدوج/قوائم نسبية) لملاءمة ثقافة الائتلاف.

المعيار الحاسم: هل تستطيع باريس صياغة رؤية نموّ تتجاوز هندسة الضرائب إلى تسريع الإنتاجية (ابتكار/طاقة/تعليم/بساطة تنظيمية)؟ بدون ذلك، ستظل خريطة المخاطر أوسع من مظلّة التصنيفات.

ثامنًا: خاتمة — من “حكومة الإصلاحات” إلى “إصلاحاتٍ للحكم

أزمة فرنسا اليوم ليست مفاضلةً بين يمينٍ ويسار، بل بين قدرة الدولة وهندسة السياسة.
ولعل المفارقة أن البلد الذي علّم أوروبا فنون الدولة الحديثة يحتاج الآن إلى إصلاحاتٍ للحكم نفسه: ثقافة ائتلاف، قواعد مالية ذات مصداقية، واستثمارٌ في النموّ قبل أن تلتهم خدمة الدين المستقبل.
عندها فقط يمكن لفرنسا أن تعود إلى موقعها الطبيعي قاطرةً أوروبية وشريكًا يُعوَّل عليه شرق المتوسط.

المراجع:

  • The Guardian“France’s parliamentary permacrisis: the new political reality” (Oct 2025).
  • Trading EconomicsFrance Government Debt and Deficit Data (Q2 2025).
  • Fitch Ratings“Fitch Downgrades France to A+; Outlook Stable” (12 Sept 2025).*
  • Le Monde“Poverty and social fractures hit record levels” (2025).*
  • INSEE (Institut national de la statistique et des études économiques)Poverty Indicators 2023 Report.
  • Banque de FranceCorporate Failures Report (Aug 2025).
  • Creditreform Europe Insolvency Report 2024France records highest absolute number of bankruptcies.
  • Reuters“France’s political paralysis sparks fresh credit rating warnings.”
  • Financial Times“Business groups warn Macron’s tax policy shift could hurt investment.”
  • European Commission Economic Forecasts 2025Spring Forecast.
  • France24“French debt surges to record levels but IMF intervention ruled out.”

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أجرى سلسلة زيارات في طرابلس برفقة علي محمود العبد الله

السفير الصيني تشن تشواندونغ: شمال لبنان يمكن أن يلعب دورًا مهمًّا في الاقتصاد اللبناني وإعادة ...

الحاج يكشف عن خطة شاملة لإخراج قطاع الاتّصالات من سنوات الإهمال والانتقال من النطاق الضيّق إلى النطاق العريض

كشف وزير الاتّصالات شارل الحاج عن خطة شاملة لإخراج قطاع الاتّصالات من سنوات الإهمال، والانتقال ...

مرقص في تكريم نقابة مصممي الغرافيك الإعلام اللبناني: نحو خطوات تكاملية بين الإعلام والغرافيك

اقامت  نقابة مصممي الغرافيك  احتفالا تكريميا   للإعلام اللبناني برعاية وزير الإعلام المحامي د. بول ...