إعادة بناء جسور استراتيجية: التحول السعودي – اللبناني في ضوء الانفراجة الاقتصادية والسياسية

بقلم: د. خالد عيتاني رئيس لجنة الطوارىء الإقتصادية

في يومٍ يبدو فاصلًا في تاريخ العلاقات بين لبنان والمملكة العربية السعودية، تعلن العاصمة السعودية عن نية واضحة لتحريك العلاقات التجارية مع لبنان، بعد سنوات من التوتر وانحسار الصادرات اللبنانية إلى الخليج. هذا الموقف لم يُصب فقط في خانة الاقتصاد، بل يحمل أيضًا إشارات سياسية عميقة، تعكس

استراتيجية سعودية متجددة تعيد رسم خريطة العلاقة مع لبنان، بكل تعقيداتها الطائفية والإقليمية.

من جهة لبنانية، تأتي هذه المبادرة كإجابة على الضغوط الداخلية والخارجية على الحكومة اللبنانية لتقديم إصلاح، وسيطرة أوسع للدولة على الملف الأمني، بينما ينظر إليها الكثيرون في الرياض على أنها فرصة لإنقاذ شريك عربي قد يكون جسرًا لتوازن إقليمي أوسع.

الانفراج الاقتصادي: دفعة حيوية للبنان

مصادر سعودية رفيعة المستوى أكّدت نيتها “اتخاذ خطوات وشيكة” لتقوية التبادل التجاري مع لبنان، بعد أن أبدت السلطات اللبنانية فعالية في الحد من تهريب المخدرات إلى المملكة، وخاصة الكبتاغون. هذه الخطوة تمثّل أول تعبير اقتصادي ملموس عن الثقة السعودية المتجددة، لا سيما أن الحظر على واردات لبنانية فُرض منذ عام 2021 كان له أثر مدمر على قطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعة.

بالنسبة للبنان، فإن استعادة جزء من دوره التصديري إلى السوق السعودي يمكن أن ينعش الاقتصاد الوطني. فقد

تكبد المزارعون والصناعيون خسائر كبيرة منذ عام 2021، خاصة في القطاعات الزراعية التي كانت تصدر كميات مهمة إلى الخليج. بحسب مراقبين، فإن إعادة فتح التصدير قد يعيد ضخّ العملة الصعبة للنظام اللبناني، ويخفف من الضغوط المالية التي يعاني منها بلد يعتمد كثيرًا على العملات الأجنبية لتمويل وارداته ودعم ميزانيته الخارجية.

الديناميات السياسية: شروط، تطمينات، وتحولات معمقة

لا يمكن فصْل الرواية الاقتصادية عن التوترات السياسية التي رافقت العلاقة

بين الرياض وبيروت. لطالما شكّل نفوذ حزب الله، المدعوم من إيران، عقبة أمام التقارب الخليجي. لكن في الأشهر الأخيرة، بدأت ملامح تحوّل جديد: دعا الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، إلى “فتح صفحة جديدة” مع السعودية والانخراط في حوار مباشر.

وحسب مصادر مطّلعة، فإن هذا الخطاب جاء بدفع دبلوماسي إيراني بقيادة شخصيات مثل علي لاريجاني، الذي زار الرياض مؤخرًا وأبلغ السعوديين أن نزع سلاح حزب الله بالكامل ليس بالضرورة في مصلحة لبنان أو الاستقرار الإقليمي. من جانبها، السعودية لم تكتفِ بإشارة

تجارية فقط، بل وضعت شروطًا واضحة مرتبطة بالسيادة ومكافحة تهريب المخدرات، وربطت ذلك بضرورة تقوية الدولة اللبنانية وعدم السماح لأن تكون منصة لجهات مسلحة غير مؤسساتية.

دور نبيه بري: جسر دبلوماسي في معادلة الداخل

في هذا المشهد المعقّد، يبرز اسم نبيه بري كواحد من الفاعلين المحوريين. على مدى سنوات، تميّز بري بقدرته على المناورة بين مختلف الكتل السياسية والطائفية، مجسّدًا سياسة دبلوماسية داخلية معتدلة. تحركاته الأخيرة، سواء من خلال تواصله مع إيران أو الأطراف

الخليجية، تُفسَّر على أنها محاولة لترجمة هذا التقارب السعودي إلى استراتيجية لبنانية أكثر استقرارًا، تحفظ حق الدولة وتقلّص النفوذ المنفلت لأطراف مسلحة.

هذا الدور لا يقتصر على كونه وسيطًا فقط، بل يشكّل عنصرًا من إعادة التوازن: حينما تدعو الرياض إلى شراكة مشروطة وليست تحالفًا أيديولوجيًا، فإن بري يمكن أن يكون الضمان اللبناني لهذا التوازن، شريكًا يقدم التزام الدولة والسيادة في مقابل الانفتاح الاقتصادي.

الإصلاحات الاقتصادية: من الشأن المالي إلى تعزيز

الاستثمار

على الضفة السعودية‑اللبنانية، رسّخ الموقف الاقتصادي من خلال لقاءات رسمية: فقد التقى السفير السعودي وليد البخاري بوزير المالية اللبناني ياسين جابر لمناقشة “إجراءات تسرّع متطلبات الاستقرار المالي والنقدي وتُحفّز النمو”. هذه المحادثات ليست شكلية فقط، بل تعكس اهتمامًا مشتركًا بتأسيس بيئة استثمارية آمنة ومستقرة تستقبل رؤوس الأموال السعودية المشتركة.

كما أعلن السفير البخاري التزام المملكة تجاه لبنان، ليس فقط من خلال التجارة، بل عبر دعم إنساني وتنموي في الغذاء،

الصحة، والطاقة، مما يعكس توجهًا سعوديًا لا يركز على الربح التجاري فحسب، بل على إعادة بناء الثقة والتضامن الاجتماعي.

الرؤية الاستراتيجية: شراكة مشروطة ومستدامة

ما نشهده اليوم ليس مجرد محاولة لإحياء الاقتصاد اللبناني، بل خلق نموذج شراكة جديدة، يعتمد على:

  • المكافأة المشروطة: السعودية تفتح الباب أمام لبنان، ولكن بشروط أمنية وسيادية واضحة.
  • تمكين الدولة: من خلال الضغط ضد النفوذ غير المؤسسي، وإعادة بناء

مؤسسات الدولة الاقتصادية.

  • توازن إقليمي: التنسيق مع إيران – عبر حزب الله وبري – ليس إعادة تحالف، بل لعبة دبلوماسية دقيقة تعيد توزيع الأدوار دون مواجهة مفتوحة.
  • منفعة متبادلة: لبنان يحصل على شريان اقتصادي ودعم تنموي، والسعودية تحصل على شريك اقتصادي واستراتيجي في مشروع استقرار إقليمي.

مخاطر أمام التحول

ورغم التفاؤل، فإن الطريق محفوف بالمخاطر: فعدم تنفيذ الإصلاحات

الأمنية، أو تراجع التنسيق السياسي، قد يعرّض أي انفراجة للخطر. كما أن أي خطوات غير مدروسة قد تُفسَّر بأنها تنازلات من السعودية، ما قد يثير ردود فعل داخلية خليجية أو إقليمية. كذلك، المنافسة اللبنانية على السوق السعودي ستكون شديدة، خاصة مع الدول الإقليمية التي ملأت الفراغ خلال سنوات الحظر.

توصيات عملية لإنجاح المبادرة السعودية‑اللبنانية

لضمان أن تكون هذه الانفراجة خطوة مستدامة وليست مؤقتة:

  • التزام محور الممانعة (حزب الله)

بضوابط الدولة: دعم سيادة الدولة اللبنانية وعدم التدخل في الشروط الأمنية والاقتصادية السعودية، مع المحافظة على موقف إيجابي يحمي لبنان من أية ضغوط إقليمية محتملة.

  • الاستفادة من الدور الدبلوماسي لنبيه بري: ضمان التوافق الداخلي حول الشراكة السعودية، وتقديم ضمانات واضحة عن قدرة الدولة على فرض سيادتها وحماية البنية التحتية الاقتصادية.
  • الإصلاحات المؤسسية والاقتصادية العاجلة: تعزيز الشفافية، الرقابة على التصدير، والالتزام بالمعايير الصحية والصناعية، لضمان وصول المنتجات

اللبنانية إلى السوق السعودي بكفاءة.

  • تعزيز الثقة السعودية‑اللبنانية: استمرار التواصل الرسمي، وإظهار نتائج ملموسة على صعيد مكافحة التهريب، وحماية حقوق المستثمرين السعوديين.
  • إدارة الرسائل الإقليمية بحكمة: الحفاظ على الحوار تحت مظلة الدولة اللبنانية، وعدم السماح بتفسيرات تؤدي إلى توترات إقليمية أو داخلية.
  •  

باتباع هذه التوصيات، يمكن للبنان تحويل هذه المبادرة السعودية إلى شريان اقتصادي وسياسي حيوي، مع

تعزيز الاستقرار الداخلي، وتحقيق شراكة استراتيجية مستدامة مع المملكة العربية السعودية والخليج العربي.

المصادر:

  • تقرير “Saudi to bolster trade with Lebanon after drug smuggling curbed” – Reuters
  • تحليل Al‑Monitor حول النية السعودية لتعزيز العلاقات التجارية مع لبنان
  • لقاء السفير السعودي وليد البخاري مع وزير المالية اللبناني ياسين جابر – النشرة اللبنانية
  • تصريح السفير البخاري حول صندوق

الدعم السعودي‑الفرنسي لدعم لبنان – الوكالة الوطنية للإعلام

  • مقال “العلاقات اللبنانية ـ السعودية … تعويل على رفع الحظر لتحريك الاستثمار” – العربي الجديد
  • دعوة نعيم قاسم (حزب الله) لفتح صفحة جديدة مع السعودية – Reuters
  • تقرير “مصادر: إيران تقف وراء دعوة حزب الله” – Reuters
  • تصريح السفير البخاري مع الرئيس ميشال سليمان حول سيادة لبنان وإنقاذه – الوكالة الوطنية للإعلام.
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أجرى سلسلة زيارات في طرابلس برفقة علي محمود العبد الله

السفير الصيني تشن تشواندونغ: شمال لبنان يمكن أن يلعب دورًا مهمًّا في الاقتصاد اللبناني وإعادة ...

الحاج يكشف عن خطة شاملة لإخراج قطاع الاتّصالات من سنوات الإهمال والانتقال من النطاق الضيّق إلى النطاق العريض

كشف وزير الاتّصالات شارل الحاج عن خطة شاملة لإخراج قطاع الاتّصالات من سنوات الإهمال، والانتقال ...

مرقص في تكريم نقابة مصممي الغرافيك الإعلام اللبناني: نحو خطوات تكاملية بين الإعلام والغرافيك

اقامت  نقابة مصممي الغرافيك  احتفالا تكريميا   للإعلام اللبناني برعاية وزير الإعلام المحامي د. بول ...