د. خالد عيتاني رئيس لجنة الطوارىء الإقتصادية
على مدى أكثر من عقدين، مثلت المؤتمرات الاقتصادية الدولية محطة حاسمة في تاريخ لبنان المالي والإداري، بدءًا من سلسلة مؤتمرات باريس 1 و2 و3 وصولاً إلى مؤتمر بيروت 1 في نوفمبر 2025. لم تكن هذه المؤتمرات مجرد عروض للتمويل أو بيانات رسمية، بل كانت أدوات استراتيجية لإعادة بناء الثقة بين الدولة اللبنانية والمستثمرين الدوليين والإقليميين، وإشراك الجالية
اللبنانية في الخارج، إضافة إلى تحديد أولويات الإصلاح الاقتصادي والبنية التحتية والاستثمارية. ورغم اختلاف السياقات والتحديات، شكّل كل مؤتمر فرصة لتقييم واقع لبنان الاقتصادي، وقياس مدى التقدم في الإصلاحات الهيكلية، ووضع خارطة طريق للتعاون الدولي والإقليمي.
مؤتمر باريس 1 (2001) – بداية الإصلاحات الهيكلية
انعقد مؤتمر باريس 1 في عام 2001 في وقت كانت فيه لبنان بحاجة ماسة لإطلاق إصلاحات مالية وإدارية هيكلية.
ركّز المؤتمر على إصلاح المالية العامة، بما في ذلك تحسين جمع الضرائب وإدارة الدين العام، وتحديث الإدارة العامة عبر برنامج OMSAR، وتعزيز الرقمنة والشفافية في الوزارات والإدارات، بالإضافة إلى معالجة أزمة قطاع الكهرباء ودعم النمو الاقتصادي عبر مشاريع البنية التحتية والصناعة والسياحة، وتعزيز القطاع المصرفي ورفع مستوى الرقابة والمعايير المحاسبية.
ما تم تنفيذه: تحسن جزئي في تحصيل الضرائب، إدخال برامج رقمنة محدودة في بعض الوزارات، وإعادة هيكلة جزئية للإدارات الحكومية.
ما لم يُنفّذ: الخصخصة في القطاعات الرئيسية لم تتحقق، أزمة الكهرباء استمرت، ولم ينخفض الدين العام بشكل جوهري.
الحضور والشخصيات:
- دوليون: الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، صناديق التنمية العربية.
- إقليميون: السعودية، الكويت، الإمارات (على مستوى صناديق التنمية).
- لبنانيون: رئيس الحكومة رفيق
الحريري، وزير المالية فؤاد السنيورة، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، كبار موظفي المالية والإدارة العامة.
ما يميّزه عن مؤتمرات لاحقة: باريس 1 شكّل الانطلاقة الأولى لإعادة بناء الثقة والشفافية، لكنه لم يحقق إصلاحات جوهرية أو خصخصة فعالة.
مؤتمر باريس 2 (2002) – التمويل مقابل الإصلاح
انعقد باريس 2 في عام 2002 لتعزيز الدعم المالي للبنان مقابل الالتزام بالإصلاحات المالية والإدارية المحددة.
ركّز المؤتمر على تقديم مساعدات مالية وقروض ميسّرة، خفض العجز العام، تحسين الجباية، إعادة هيكلة الدين، خصخصة قطاعات استراتيجية مثل الطاقة والاتصالات، وتعزيز الحوكمة والشفافية.
النتائج: منح وقروض فعلية، بما فيها وديعة سعودية كبيرة، تحسن محدود في تحصيل الضرائب وبعض الإجراءات الإدارية. مع ذلك، بقيت الخصخصة جزئية، استمرت أزمة الكهرباء، وظل العجز المالي مرتفعًا.
الحضور والشخصيات:
- دوليون: الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الاتحاد الأوروبي، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، الولايات المتحدة.
- إقليميون: السعودية (الأمير سعود الفيصل ووفد صندوق التنمية السعودي)، الكويت، الإمارات، قطر.
- لبنانيون: رفيق الحريري، فؤاد السنيورة، رياض سلامة، وزراء المالية والطاقة.
ما يميّزه عن باريس 1: اعتماد التمويل المشروط بالإصلاحات الواضحة وإدخال الخصخصة كشرط لدعم لبنان، مع تعزيز الرقابة على تنفيذ الإصلاحات المالية.
مؤتمر باريس 3 (2007) – إعادة الإعمار بعد حرب تموز
بعد حرب تموز 2006، جاء مؤتمر باريس 3 ليضع أولوية إعادة الإعمار. ركّز على تمويل مشاريع إعادة بناء البنية التحتية المتضررة، دعم الإصلاح المالي وخفض العجز مع التركيز على الحوكمة، إلى جانب برامج اجتماعية لدعم التعليم والصحة والفقراء.
النتائج: تمويل مشاريع إعادة الإعمار بشكل ملموس، تحسن محدود في الجباية الضريبية، مع بعض البرامج
الاجتماعية، بينما بقيت الخصخصة والتحسينات في الحوكمة محدودة.
الحضور والشخصيات:
- دوليون: الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ممثل الاتحاد الأوروبي، الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، الولايات المتحدة.
- إقليميون: السعودية، الإمارات، قطر، الكويت، مصر.
- لبنانيون: رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، وزير المالية جهاد أزعور، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وزراء آخرون.
ما يميّزه عن باريس 2: التركيز على إعادة الإعمار بعد الكوارث، وإدراج برامج اجتماعية لدعم الفئات الأكثر ضعفًا، بدل التركيز فقط على الإصلاح المالي والخصخصة.
مؤتمر بيروت 1 (2025) – استعادة الثقة وجذب الاستثمار
بعد سنوات طويلة من الأزمة الاقتصادية، انعقد مؤتمر بيروت 1 في نوفمبر 2025 ليعيد لبنان إلى الخارطة الاستثمارية العالمية. هدف المؤتمر جذب
استثمارات مباشرة من الجالية اللبنانية والمستثمرين الدوليين والإقليميين، وعرض مشاريع جاهزة بقيمة 7.5 مليار دولار تشمل البنية التحتية، الطاقة، التكنولوجيا، والزراعة، مع إنشاء منصة متابعة لضمان الشفافية ومتابعة التنفيذ.
المحاور الرئيسية:
- البنية التحتية والطاقة
- الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا
- الاستثمار من الجالية اللبنانية
- الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)
- الإصلاح المالي والمؤسساتي
- الزراعة والصناعة
الحضور والشخصيات:
- دوليون: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، BlackRock، Morgan Stanley، General Atlantic، Orascom.
- إقليميون: السعودية، الإمارات، الكويت، قطر، الأردن، مصر.
- لبنانيون: الرئيس جوزيف عون، وزير الاقتصاد عامر بساط، وزير المالية ياسين جابر، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي شارل عربيد، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ممثلون عن القطاع الخاص والنقابات والجالية اللبنانية في الخارج.
الاتجاه الإعلامي:
- المتفائل: ركّز على عودة لبنان للثقة الدولية، المشاريع الجاهزة، مذكرات التفاهم مع شركات عالمية، ورؤية الحكومة لبناء اقتصاد جديد قائم على الإنتاج والتكنولوجيا.
- المتشائم: ركّز على المخاطر السياسية، البطء في الإصلاحات الهيكلية، عدم وضوح بعض التفاصيل المتعلقة بالتمويل، مستذكرين تجربة مؤتمرات باريس السابقة.
ما يميّزه عن مؤتمرات باريس السابقة:
وضوح خارطة الطريق مع مشاريع جاهزة، إشراك الجالية اللبنانية وصناديق الاستثمار الدولية والإقليمية، تأسيس آليات متابعة دقيقة، والتركيز على الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
الرؤية المستقبلية وآلية التنفيذ:
- تحويل الاقتصاد من نموذج تقليدي قائم على الاستيراد والدين العام إلى اقتصاد إنتاجي قائم على الاستثمار والتكنولوجيا والطاقة المستدامة.
- تأسيس منصة متابعة مركزية بين وزارة الاقتصاد والمجلس الاقتصادي لمراقبة المشاريع والتقارير المالية والفنية.
- تفعيل صندوق ضمان المخاطر السياسية لجذب المستثمرين وضمان استقرار العوائد.
- إطلاق صناديق مشتركة مع الجالية اللبنانية للاستثمار في مشاريع صغيرة ومتوسطة.
- إصلاح تشريعي سريع: قوانين الشراء العام، ضمانات الاستثمار، إجراءات الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
- تعزيز الشفافية والمساءلة لضمان تنفيذ المشاريع وفق معايير واضحة، وإشراك القطاع الخاص والخبراء الدوليين.
- إطلاق مشاريع سريعة التنفيذ لتعزيز الثقة لدى المستثمرين وخلق نتائج
ملموسة في مدة قصيرة.
التحليل والاستنتاج:
- المكاسب: عودة لبنان إلى الخارطة الاستثمارية، إشراك الجالية اللبنانية ومؤسسات التمويل الدولية، إطلاق مشاريع جاهزة ومذكرات تفاهم.
- التحديات: التنفيذ الفعلي يعتمد على إصلاحات عاجلة وشفافية كاملة، المخاطر السياسية والمالية قائمة.
- الفرصة المستقبلية: لبنان أمام فرصة تاريخية لتحويل اقتصاده إلى اقتصاد إنتاجي ومستدام.
الخاتمة:
اختتم الرئيس جوزيف عون مؤتمر بيروت 1 مؤكدًا: “لبنان ليس بحاجة إلى وعود جديدة، بل إلى تنفيذ حقيقي. كل مشروع، كل استثمار، وكل إصلاح يبدأ بخطوة صغيرة، لكنه خطوة نحو لبنان جديد، اقتصادياً واجتماعياً، يضمن الكرامة والفرص لكل لبناني.”
المراجع
- وزارة المالية اللبنانية، “One Year Progress Report – Paris II”، 2002. رابط
- NNA – الوكالة الوطنية للإعلام، “Paris I & II – إصلاحات فعلية
ودعم دولي”، 2001. رابط
- Al-Jazirah، “مؤتمر باريس II والدعم البنيوي للإصلاح المالي والاقتصادي”، 2005. رابط
- Al-Araby، “افتتاح مؤتمر بيروت 1 الاستثماري… مشاركة عربية ودولية واسعة”، 2025. رابط
- Beirut One، الموقع الرسمي لمؤتمر بيروت 1، 2025. رابط
- L’Orient Today، تغطية مؤتمر بيروت 1، 2025. رابط
- الجيش اللبناني، “آفاق حلول الأزمة الاقتصادية وباريس 3”، 2007. رابط
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية