د. ميلاد السبعلي
مدخل: حين يختلّ التوازن، تتعطّل الحركة
في كل مؤسسة—سواء كانت تعليمية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو حكومية—توجد علاقة دقيقة بين الفرد والجماعة. هذه العلاقة ليست تقنية، ولا تفصيلاً ثانوياً، بل هي الأساس الذي تتحدد عليه ديناميكية المؤسسة:
هل تنتج المعرفة أم تكرّرها؟
هل تطلق المواهب أم تخنقها؟
هل تقود أم تكتفي بالدفاع؟
عندما تُساء قراءة هذه العلاقة، يحدث اختلال خطير: تُستبدل الكفاءة بالولاء، ويُستبدل الإبداع بالشكليات، ويصبح النظام جداراً بدلاً من أن يكون جسراً. وعندها تفقد المؤسسات قدرتها على التجدد، مهما امتلكت من موارد أو تاريخ أو نفوذ.
في المقابل، حين يُفهم الفرد بوصفه مصدر قيمة، وتُفهم المؤسسة بوصفها فضاءً لاحتضان الإمكانيات، يتحوّل العمل المشترك إلى قوة خلاقة قادرة على توليد المستقبل.
هذا المقال يحاول إعادة صياغة المعادلة، بعيداً من التعميمات والشعارات، وبمنهج عملي يناسب عصر التحوّل العميق الذي نعيشه.
الفرد ليس مشكلة… بل إمكانية
غالباً ما تُعامل المواهب داخل المؤسسات بحذر مبالغ فيه. فالفرد الذي يملك رأياً مستقلاً أو نظرة مبتكرة يُنظر إليه أحياناً كـ”تهديد” للانسجام الداخلي. وهكذا تتحول المؤسسة من مساحة إنتاج إلى مساحة ضبط وسلوك.
لكن الحقيقة أبسط وأعمق في الوقت نفسه: الفرد ليس مشكلة يجب احتواؤها، بل إمكانية يجب تفعيلها.
فالقيمة الحقيقية للفرد لا تكمن في قدرته على ترداد ما هو قائم، بل في قدرته على تجاوز المألوف. والمؤسسات التي تنظر بقلق إلى كل تفكير جديد، أو تعتبر أي اختلاف “خلخلة للنظام”، تضمن لنفسها شيئاً واحداً فقط: الجمود، ثم التراجع.
الإمكانية الفردية هي المادة الخام لأي تطور. بدونها، يصبح النظام مجرد آلية لتدوير الهواء داخل غرفة مغلقة.
عندما يزدهر المتوسّطون ويتسلّق المتسلقون
في كثير من المؤسسات، وخاصة تلك التي تعتمد على نماذج عمل قديمة أو قيادة دفاعية، تظهر ظاهرة خطيرة يمكن تلخيصها بالتالي:
الموهوب يُخشى منه… والمتوسّط يُحتفى به… والمتسلّق يجد طريقه صاعداً.
القيادات التقليدية، خصوصاً عندما تكون قلقة على مواقعها أو غير مهيّأة لإدارة المواهب، تميل بشكل لا واعٍ إلى تفضيل فئتين:
المتوسطون:
أولئك الذين لا يهدّدون أحداً، ولا يقدّمون شيئاً يربك السقف المعرفي للقادة. وجودهم مريح، متوقّع، يمكن السيطرة عليه. فيقولون دائماً ما هو مألوف، ويكرّرون ما يُطلب منهم بدقّة، ولا يسألون: لماذا؟
المتسلّقون:
وهم الأشخاص الذين لا يمتلكون قيمة حقيقية، ولكنهم يمتلكون مهارة واحدة بارعة: التقرّب ممن يملك السلطة. يعرفون كيف يُظهرون الولاء المناسب في اللحظة المناسبة، وكيف يرفعون صوتهم دفاعاً عن المؤسسة من دون أن يقدّموا شيئاً فعلياً لنجاحها. إنهم بارعون في صناعة الصورة، ضعفاء في إنتاج القيمة.
هذه الثنائية—متوسط مطيع ومتسلق مراوغ—تشكل بيئة خانقة للمبدعين. فبينما يُكافأ التكرار، تُعاقَب الجرأة. وبينما يُسمع صوتُ الضجيج، يُهمَل صوتُ التفكير الهادئ الرصين.
وهكذا يتشكل داخل المؤسسة “هرم مقلوب”:
الأدنى قدرة يرتفع، والأعلى قيمة يتراجع.
وهذا أخطر ما يمكن أن يصيب مؤسسة تتطلّع إلى التجدد أو المنافسة.
فالمتسلق لا يصنع مؤسسة، والمتوسط لا يطوّرها. من يصنعها هو ذلك الفرد الذي يحمل رؤية، يمتلك مهارة، ويملك الشجاعة الفكرية ليقدّم جديداً يحتاجه المستقبل، بدون أن تتضخم الأنا عنده ليصبح عدائياً وأنانياً.
تحويل الإمكانية الفردية إلى رافعة مؤسسية
لا تنهض المؤسسات إلا حين تتحوّل الإمكانيات الفردية إلى قيم مضافة، وحين تنتقل من مرحلة الخوف من التميّز إلى مرحلة إدارة التميّز.
ولذلك، يصبح دور القيادة الحديثة واضحاً:
• أن تميّز بين الإبداع والتهوّر، لا بين الولاء والاختلاف.
• أن تفتح المجال للمواهب، لا أن تضع سقفاً منخفضاً يحمي المتوسطين.
• أن تجعل النظام إطاراً للتنسيق، لا أداةً للحدّ من الطاقات.
• أن تُعيد تعريف الولاء بأنّه التزام بالقيمة والإنجاز، لا بالشخص والسلطة.
عندما يحدث ذلك، تتحول المؤسسة من دائرة مغلقة إلى ورشة ابتكار، ومن جهاز دفاعي إلى جهاز إنتاج، ومن بيئة طاردة للمواهب إلى بيئة جاذبة لها.
إنّ الفرد، حين يُمنح مساحة صحية داخل مؤسسة عادلة، يمكن أن يصبح مُحرّكاً للتغيير، ومصدراً للأفكار الجديدة، وجسراً بين الحاضر والمستقبل. أما عندما يُقابل بالشكّ والحواجز والاتهامات، فإن المؤسسة لا تخسر شخصاً واحداً فقط، بل تخسر مستقبلاً كاملاً كان يمكن أن يصنعه.
المؤسسة ليست سجناً للإبداع… بل مجالاً لتحققه
كما أنّ رؤية الفرد بوصفه مشكلة خطأ شائع، كذلك النموذج الذي يصوّر المؤسسة ككيان يقيد المواهب ويحدّ من الطاقات.
المؤسسة—عندما تُبنى بشكل صحيح—هي المجال الذي تتحقق فيه الإمكانات الفردية. فهي:
• تنظّم الفعل الفردي ليصبح أثراً عاماً
• توفر موارد وأدوات لا يستطيع الفرد امتلاكها وحده
• تحوّل الطاقة الشخصية إلى مشروع ناجح
• تخلق شبكة تعاون ترفع الإنتاجية والمعرفة
المؤسسة الفعّالة لا تخشى المواهب المختلفة، بل تجمعها وتنسّق بينها ضمن رؤية مشتركة. وهي تدرك أنّ الإبداع الفردي، دون إطار مؤسساتي، يتحول إلى جهد متقطع؛ والنظام دون إبداع يتحول إلى بيروقراطية خانقة.
الأخلاق المهنية—العمود الفقري للعلاقة بين الفرد والمؤسسة
في الثقافة الحديثة، يجري الحديث كثيراً عن “الالتزام” و”النظام” و”الانضباط”. لكنها مفاهيم ناقصة إذا لم تُبنَ على أساس جوهري: الأخلاق المهنية.
الأخلاق المهنية ليست وعظاً ولا شكليات، بل هي بنية تنظيمية فكرية تحمي المؤسسة من الفوضى، وتحمي الإبداع من الانحراف. وهي تقوم على عناصر أساسية:
1. احترام الاختصاص
لا يمكن لأي فريق أن يعمل بفعالية في غياب مركزية الخبرة والمعرفة.
2. التواضع المعرفي
الموهبة لا تعطي صاحبها حقاً في تجاوز المعايير أو الاستخفاف بالآخرين.
3. الولاء للقيمة قبل الأشخاص
لا معنى لمؤسسة تُبنى على شبكات المصالح، بينما يتراجع فيها معيار الكفاءة.
4. القدرة على الإصغاء
الموهبة التي لا تصغي تفقد قدرتها على التطور.
5. وضع المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصية
الإبداع الحقيقي هو الذي ينتج أثراً يتجاوز صاحبه.
بهذه الأخلاق، يتحول النظام من قيد إلى إطار يضبط الحركة ويضمن اتساقها.
أين تبدأ الأزمة داخل المؤسسات؟
تبدأ الأزمة عندما تنقلب العلاقة بين الفرد والمؤسسة إلى صراع خفيّ. ويمكن تلخيص مظاهر هذه الأزمة في أربعة مستويات:
1. الخلط بين الإبداع والفردانية الأنانية
يتراجع معنى الإبداع، ويُنظر إليه كتمرّد أو محاولة لإثبات الذات على حساب الجماعة. ويتهم كل مبدع بأنه فرداني وأناني ومتسلّق.
2. خوف المؤسسة من المعرفة الجديدة
المعرفة الجديدة تكسر المألوف، وتحرج أصحاب الامتيازات القديمة، وتفرض على المؤسسة أن تتغير.
3. ضعف المعايير المهنية
حين يصبح الولاء أهم من المؤهلات، والصوت العالي أهم من الخبرة، يعلو المتسلقون ويتراجع أصحاب الكفاءة.
4. انكماش الجيل الجديد
عندما يشعر الشباب بأن المؤسسة لا توفر مساحة للتجربة والمسؤولية والمبادرة، فإنهم ينسحبون بصمت.
فردٌ دون مؤسسة = طاقة ضائعة… مؤسسة دون أفراد مبدعين = هيكل بلا روح
التاريخ المؤسسي في العالم كله يثبت معادلة واحدة:
• المؤسسة التي تعتمد على النظام وحده تتحول إلى بيروقراطية جامدة.
• والمؤسسة التي تعتمد على الأفراد وحدهم تتحول إلى فوضى.
• أما المؤسسة القوية فهي التي تدمج بين:
الإبداع + النظام + الأخلاق + الرؤية المشتركة.
وحده هذا التكامل يصنع مؤسسة تستمر، ولا تستهلك نفسها.
كيف نبني علاقة صحية بين الفرد والمؤسسة؟
هذه بعض الأسس العملية القابلة للتطبيق في أي مؤسسة حديثة:
1. جعل الكفاءة معياراً أعلى من الولاء
لا نهضة وتطور داخل مؤسسة ما لم تُصغ القرارات بناءً على الخبرة والاختصاص والإنجاز، لا على العلاقات القائمة أو الحساسيات الداخلية.
2. تحويل النقد البنّاء إلى ثقافة لا جريمة
النقد ليس تهديداً للمؤسسة، بل وسيلة لتحسينها. المؤسسة التي تعاقب النقد، تعاقب التطور نفسه.
3. بناء آليات شفافة للتحفيز والتقييم
ما لم يشعر الفرد بأن جهده يُقاس بعدالة، وأن نموه المهني مرتبط بعمله لا بولائه أو انصياعه الأعمى والأبكم، فإن المؤسسة ستفقد ولاءه الداخلي مهما بقي جسدياً داخلها.
4. خلق بيئة تحضن المبادرات بدلاً من خنقها
كل فكرة جديدة يجب أن تُختبر، لا أن تُدافَع عنها أو تُحارب. المؤسسة التي تفتح باب التجريب، تفتح الباب للابتكار.
5. الاستثمار في الجيل الجديد
الجيل الشاب يمتلك أدوات لم تكن متاحة من قبل: تفكير نقدي، وتكنولوجيا، وذكاء اصطناعي، ولغات، ومرونة في التعلم، وقدرة على التحليل. هذا الجيل ليس تهديداً… بل محرّك تحول، خاصة اذا تدرب على المسؤولية الاجتماعية والأخلاق المهنية.
المؤسسة منصة لا قيد
الفرد الموهوب بحاجة إلى مؤسسة تنظّم طاقته، والمؤسسة بحاجة إلى أفراد يحرّكونها.
لا قيمة لإبداع لا يؤثر في المجال العام، ولا قيمة لمؤسسة لا تملك روحاً متجددة.
العلاقة الصحية بين الفرد والمؤسسة هي علاقة تحقق متبادل: الفرد المبدع والموهوب يكتمل داخل المؤسسة، والمؤسسة تتجدد بالمواهب المتميزة. أما المتوسطون والانتهازيون فلا يبنون مؤسسة، مهما برعوا في المظاهر والتملّق والمسايرة.
خاتمة: نحو مؤسسات تصنع المستقبل لا الماضي
المؤسسات ليست مباني ولا أنظمة داخلية ولا هياكل إدارية.
المؤسسة هي عقلٌ وثقافة ومنهج ورؤية، وهي قدرة على تحويل الطاقات الفردية إلى قيمة عامة.
والمستقبل—في عصر التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي—سيكون للمؤسسات التي تستطيع:
• امتلاك رؤية معاصرة وثاقبة
• احتضان المواهب لا طردها
• تنظيم الإبداع لا خنقه
• استخدام النظام كأداة للتنسيق لا كسلاح للمراقبة والقمع
• بناء أخلاق مهنية راسخة
• الاستثمار في الشباب
• وتجديد نفسها كلما تغير العالم
المؤسسة التي تفهم الفرد كإمكانية، وتفهم نفسها كمجال لتحقيق هذه الإمكانية، من خلال نظام عصري مرن، يشجع الابتكار ويضبط الأنانيات والمماحكات، وتمتلك رؤية متجددة، تتحول إلى قوة خلاقة قادرة على صنع التأثير في مجتمع يتغير بسرعة غير مسبوقة.
أما المؤسسة التي تخاف من التغيير، وتخشى المواهب، وتكتفي بإعادة تدوير الماضي، فستجد نفسها—مهما كان حجمها—عالقة في زمن لم يعد موجوداً، ومرتعاً للمتوسطين والخانعين والمنصاعين والمتسلقين.
المستقبل يُصنع حين تلتقي الإمكانيات والمواهب الفردية بالرؤية المؤسسية… وحين يصبح النظام إطاراً لاحتضان الإبداع، ومكافحة الفردية والأنانية والمماحكات، وتصبح الأخلاق ضمانة للتوازن، وتصبح المؤسسة بيتاً للنمو، لا حاجزاً أمامه.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية