تحليل سياسي–اقتصادي واستشراف لمستقبل الردع العربي–الإسلامي بعد ضربة قطر
بقلم: د. خالد عيتاني — رئيس لجنة الطوارئ الاقتصادية
مقدّمة: من الدوحة انكشفت خطوط الصدع
في السادس عشر من أيلول/سبتمبر 2025، اجتمع قادة 54 دولة عربية وإسلامية في العاصمة القطرية الدوحة تحت مظلّة قمّة طارئة غير مسبوقة. لم يكن الدافع تقليديًا؛ بل صدمة سياسية مدوّية تمثّلت في ضربة إسرائيلية داخل الأراضي القطرية استهدفت وفدًا سياسيًا من حركة حماس أثناء مفاوضات غير مباشرة برعاية قطرية-أمريكية لبحث وقف حرب غزة المستمرة منذ أكثر من سبعمئة يوم.
وللمرة الأولى منذ عقود، يُضرب الوسيط بدل المتحارب، ويُستهدف من حمل غصن الزيتون لا من أشعل النار. من هنا، تحوّلت قمة الدوحة إلى لحظة انكشاف للنظام العربي–الإسلامي برمّته: هل يكتفي بالاستنكار الرمزي؟ أم يجرؤ على بناء أدوات ردع حقيقية؟
السياسة: عندما اغتيل الوسيط في وضح النهار
البيان الختامي استخدم لغة غير مألوفة في بيانات القمم العربية؛ فقد أكّد أنّ الاعتداء على قطر هو اعتداء على الجهود الدبلوماسية للسلام، وذكّر بأن الدوحة كانت تمثّل شريان الوساطة منذ بداية حرب غزة. جاء في البيان أن استهداف الوسيط سابقة خطيرة تنسف منطق السياسة من جذوره — وهو ما لخّصه الرئيس أحمد الشرع بقوله:
«من نوادر التاريخ أن يُقتل المفاوض، ومن سابقة الأفعال أن يُستهدف الوسيط».
لم يكتفِ البيان بالرمزية؛ بل استدعى صراحة المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة التي تحظر استخدام القوة ضد أراضي أي دولة، وطالب الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي الموقّعة على نظام روما الأساسي بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية (ICC) في تنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة بتاريخ 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ودعم إجراءات محكمة العدل الدولية (ICJ) بشأن فلسطين (أوامر 26 كانون الثاني/يناير 2024).
هذا يشكّل نقلة نوعية في الخطاب العربي التقليدي: من المناشدة الإنشائية إلى التلويح الصريح بأدوات المساءلة الدولية الملزمة قانونًا.
الأمن: قمة بلا مخالب
رغم نبرة البيان المرتفعة، بقيت الأرضية خاوية من أدوات الردع. لم تُقرّ القمّة تشكيل قوة دفاع مشترك، ولا قواعد اشتباك عربية–إسلامية، ولا حتى تعليق اتفاقيات التطبيع أو التعاون العسكري أو التجاري مع إسرائيل.
اكتفت بإعلان «رفض أي اعتداء جديد» دون تحديد من هو الضامن أو كيف سيُمنع الاعتداء المقبل.
وفي مشهد أثار دهشة المراقبين، أعلن وزير الخارجية القطري أن بلاده تلقت تعهدًا شفهيًا من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بعدم تكرار الضربة، وكأنّ ضمانة سيادة دولة باتت تُكتب في تغريدة.
هنا بالضبط تكمن المفارقة التي وصفتها الفايننشال تايمز بـ “الفجوة بين وحدة الخطاب وتباين الفعل.”
الاقتصاد والجغرافيا السياسية: براغماتية تغلّف الغضب
اقتصاديًا، لم يجرؤ أي طرف على المساس بخطوط المصالح. لم يُطرح تعليق للتطبيع أو مراجعة للاتفاقات التجارية أو فرض عقوبات، رغم ضغوط الرأي العام والإعلام.
وقد كشفت رويترز أن بعض الدول شدّدت في مسودة ما قبل القمة على عدم ربط الموقف من الضربة بمسار التطبيع القائم خشية خسارة مكاسبها الاقتصادية والتقنية مع تل أبيب.
في المقابل، حرص البيان على التذكير بدعم مؤتمر نيويورك المرتقب لحلّ الدولتين في 22 أيلول/سبتمبر 2025، في رسالة ضمنية إلى الغرب مفادها:
«نحن مستعدون للشراكة الاقتصادية… إن ضُمنت حقوق الفلسطينيين ضمن إطار دولي معترف به».
بهذا المعنى، أرادت القمة استعادة الشرعية لا تفجير الجسور — الحفاظ على صورة التضامن دون التضحية بالمصالح، في توازن دقيق بين الغضب والبراغماتية.
الفكر والاستراتيجية: التحذير من حلم التمدد الإسرائيلي
من أكثر مقاطع البيان وضوحًا تلك التي حذّرت من «محاولات إسرائيل فرض واقع جديد في المنطقة»، في إحالة إلى تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أكّد أنّ إسرائيل «تطمح إلى التمدد وزيادة النفوذ، لكن ذلك لن يتحقق بوجود وعي قيادات الأمة».
هذه العبارة تعبّر عن إدراك نادر في القمم العربية بأن الصراع لم يعد نزاع حدود أو هدنة، بل صراع على شكل الشرق الأوسط نفسه لعقود قادمة — وهو ما يفسّر تلميح البيان إلى الحاجة لبناء «رؤية أمن جماعي عربي–إسلامي» حتى وإن لم يحدّد أدواتها بعد.
حدود القمّة: انتصار للرمز… لا للردع
نجحت القمة في تحقيق هدف رمزي مهم: إعادة بناء صورة التماسك العربي–الإسلامي بعد صدمة الدوحة، وتأكيد دور قطر كوسيط لا يمكن تجاوزه، ورسّخت خطابًا قانونيًا أعلى سقفًا من قمم سابقة.
لكنها فشلت في بناء معادلة ردع حقيقية؛ فلم تتبنّ:
- إجراءات اقتصادية ملزمة (تعليق تطبيع أو تبادل تجاري)،
- ولا خطوات إنشائية لتحالف أمني–عسكري مشترك،
- ولا جداول زمنية واضحة لتفعيل أوامر المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
وبذلك خرجت إسرائيل بالانطباع الأخطر:
أن العالم العربي–الإسلامي سيكتفي دومًا ببيانات غاضبة ثم يعود إلى أعماله كالمعتاد.
استشراف المستقبل: من رماد القمّة إلى معادلة جديدة
إذا استمر هذا المسار، فإن المنطقة مقبلة على توازن ردع مختلّ بشدة، حيث ترى إسرائيل أنها قادرة على ضرب حتى الدول المحايدة دون ثمن، ما سيُغريها بتوسيع “سياسة كسر الخطوط الحمراء” إلى عواصم أخرى.
لكن هناك أيضًا فرصة تاريخية إن قررت الدول الانتقال من الرمز إلى الفعل عبر أربعة مسارات متوازية:
- تحالف دفاعي عربي–إسلامي محدود النطاق يبدأ كتنسيق استخباراتي مشترك تحت مظلة مجلس التعاون ومنظمة التعاون الإسلامي.
- تصعيد قانوني منظم بإحالات جماعية إلى ICC وICJ، مع ربط التعاون الاقتصادي مع الغرب بإلزام إسرائيل بقرارات المحاكم الدولية.
- ربط التطبيع بالحقوق: جعل استمرار الاتفاقات مشروطًا بوقف التوسع الاستيطاني والالتزام بخريطة طريق واضحة لحلّ الدولتين.
- إنشاء صندوق سيادة وتعويضات لدعم أي دولة عربية أو إسلامية تتعرض لاعتداء مستقبلي، ليشكّل تكلفة استباقية تردع أي معتدٍ.
إنّ نجاح هذه الخطوات كفيل بتحويل “ضربة الدوحة” من إهانة صادمة إلى منعطف تأسيسي في بنية الردع العربي–الإسلامي.
خاتمة: حين تنقلب الرمزية إلى لحظة ميلاد
قمة الدوحة لم تكن مجرد اجتماع طارئ، بل كانت صفعة أيقظت نظامًا عربيًا–إسلاميًا مترهلًا على واقع جديد: أن الوسيط قد يُستهدف، وأن القانون الدولي بلا مخالب إن لم تسنده إرادة جماعية.
فإذا بقيت القمّة حبرًا على بيان، ستصبح مجرّد فصل مأساوي آخر في سلسلة البيانات العقيمة…
لكن إذا تحوّلت إلى منصة لإعادة هندسة منظومة الأمن العربي–الإسلامي، فستُسجّل في كتب التاريخ على أنها
القمّة التي دشّنت العصر الجديد للردع العربي–الإسلامي.
المراجع المعتمدة
- البيان الختامي الرسمي للقمة العربية-الإسلامية الطارئة في الدوحة، وكالة الأنباء القطرية (2025).
- Reuters – UN warns strike on Doha derails Gaza ceasefire talks (17 Sept 2025).
- Financial Times – Arab-Islamic summit shows rhetorical unity, practical divergence (18 Sept 2025).
- Reuters – Draft warns Israeli attacks could derail normalization (15 Sept 2025).
- Al Jazeera – Summit ends with sharp tone, few commitments (17 Sept 2025).
- Iran International – Tehran rejects “two-state” language in Doha summit (18 Sept 2025).
- ICC Arrest Warrants (21 Nov 2024) — International Criminal Court.
- ICJ Order on Palestine (26 Jan 2024) — International Court of Justice.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية