بقلم د. خالد عيتاني
المقدمة: لحظة تحوّل في تاريخ الاقتصاد اللبناني
يأتي معرض الصناعات اللبنانية 2025 في توقيتٍ بالغ الحساسية من تاريخ لبنان الاقتصادي، حيث يقف البلد عند مفترق طرق بين نموذجين متناقضين: الاقتصاد الريعي الذي انهار مع النظام المصرفي منذ عام 2019، والاقتصاد الإنتاجي الذكي الذي تحاول الدولة اللبنانية اليوم بناء ركائزه من جديد.
المعرض، الذي يجمع أكثر من 190 عارضًا على مساحة 10 آلاف متر مربع، ليس مجرد تظاهرة اقتصادية؛ بل اختبار رمزي واستراتيجي لإرادة النهوض الوطني، ومحاولة عملية لإعادة وضع الصناعة اللبنانية في قلب مشروع الإنعاش الاقتصادي.
تحت رعاية رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، وبحضور وزير الصناعة جو عيسى الخوري ورئيس جمعية الصناعيين سليم الزعني، جاء الحدث ليعبّر عن رؤية جديدة: “لبنان المنتج، لا لبنان المصرف”.
أولًا: من الانهيار إلى النهوض – السياق التاريخي
منذ عام 2019، دخل الاقتصاد اللبناني في أسوأ أزمة مالية في تاريخه الحديث، انهار فيها النظام المصرفي، وتقلّص الناتج المحلي بنحو 40%
في تلك اللحظة، برز السؤال: أي القطاعات قادرة على الصمود؟
وكان الجواب واضحًا في الأرقام — القطاع الصناعي اللبناني ظلّ أحد الأعمدة القليلة المتبقية، إذ:
- يضم نحو 7000 مؤسسة صناعية.
- يُشغّل أكثر من 250 ألف عامل.
- يُسهم بأكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي.
- ويُصدّر إلى 168 دولة بقيمة تفوق 2.5 مليار دولار سنويًا.
بهذه المؤشرات، أصبحت الصناعة “قلبًا نابضًا” في اقتصاد فقدَ توازنه، وباتت تشكّل نموذجًا للقدرة الإنتاجية في وجه الأزمات النقدية والمالية المتلاحقة.
ثانيًا: التحليل الاقتصادي – الصناعة كمحرّك للنمو المستدام
1. الصناعة بين الإنتاج والسيادة
في كلمته الافتتاحية، شدّد وزير الصناعة جو عيسى الخوري على أنّ “القطاع الصناعي هو قطاع سيادي بامتياز”، مؤكّدًا أن الصناعة ليست مجرد نشاط اقتصادي، بل ركيزة للسيادة الوطنية في ظلّ اقتصاد فقدَ أدواته النقدية.
وتؤكّد بيانات الوزارة أن هذا القطاع يتمتع بقدرة تصديرية فريدة، ويُعدّ الأكثر استدامة مقارنة بالقطاعات الخدماتية والمالية التي انهارت مع الأزمة.
لكن هذه الأرقام، رغم قوتها الرمزية، تبقى دون الإمكانات الفعلية للبنان، ما يستدعي تحولًا بنيويًا في البيئة الاستثمارية: طاقة مستدامة، تمويل صناعي ميسّر، حوافز ضريبية، واستقرار نقدي طويل الأمد.
2. من الصناعة التقليدية إلى الصناعة الذكية
كلمات رئيس الجمهورية ووزير الصناعة حملت ملامح رؤية جديدة تقوم على الانتقال من الصناعة التقليدية إلى الصناعة الذكية — أي اعتماد تقنيات الثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0) في خطوط الإنتاج، وتطوير صناعات تكنولوجية، إبداعية ومستدامة.
هذا التحوّل لا يقتصر على تحديث الآلات، بل يعني دمج الذكاء الاصطناعي والتحوّل الرقمي في التصنيع.
وهو ما يمكن أن يجعل لبنان مركزًا إقليميًا لصناعة المعرفة والتقنيات المتوسطة والعالية، إذا توفّرت ثلاثة شروط رئيسية:
- بنية تحتية رقمية متطورة (إنترنت، كهرباء، مراكز بيانات).
- تمويل موجه للشركات الناشئة والصناعات التقنية الصغيرة والمتوسطة.
- تشريعات لحماية الملكية الفكرية والبيانات الصناعية.
بهذا المعنى، لم يعد المصنع اللبناني “ورشة إنتاج”، بل أصبح “نظامًا معلوماتيًا متكاملاً” يربط بين الإنسان، الآلة، والبيانات.
3. الاستراتيجية الوطنية للصناعة – من الرؤية إلى التنفيذ
إطلاق الاستراتيجية الوطنية للصناعة يمثل لحظة مفصلية في العمل المؤسسي، إذ تشكّل للمرة الأولى خريطة طريق وطنية طويلة الأمد تتضمن خمسة محاور مترابطة:
- بناء بيئة تنافسية شفافة.
- ترسيخ علامة “صنع في لبنان” كرمز جودة عالمية.
- إنشاء مناطق صناعية متكاملة.
- تمكين الكفاءات والابتكار عبر التعليم المهني والتقني.
- تبني الصناعات المستدامة والدائرية.
هذه الأهداف تتناغم مع توجهات منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO) وأهداف التنمية المستدامة (SDG 9)، لكنها تحتاج إلى ميزانية تنفيذية واضحة ومؤشرات أداء سنوية (KPI) تقيس الإنجاز وتربط السياسات بالنتائج.
4. الاقتصاد غير الشرعي والتنافسية العادلة
في مداخلته، لفت رئيس جمعية الصناعيين سليم الزعني إلى أنّ “الاقتصاد غير الشرعي يساوي أو يزيد عن الاقتصاد الشرعي”، مشيرًا إلى ظاهرة التهريب والاقتصاد الموازي التي تُضعف الجباية وتشوّه المنافسة.
تحليل هذه الظاهرة يكشف أن ما يُفقد من إيرادات بسببها يفوق أحيانًا الدعم الحكومي الموجَّه للصناعة، ما يجعل الإصلاح الجمركي والرقابي شرطًا مسبقًا لإحياء الصناعة الوطنية.
5. الأمن كشرط للاقتصاد
كلمة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون شكّلت تأكيدًا على الرابط العميق بين الأمن والتنمية الاقتصادية، بقوله:
“لا اقتصاد ولا صناعة من دون أمن واستقرار، ولا ازدهار من دون دولة فعلية.”
هذا التصريح يُترجم قاعدة الاقتصاد السياسي الحديث: الاستقرار شرط للنمو، والسيادة شرط للاستثمار.
إذ لا يمكن بناء بيئة إنتاجية من دون دولة موحدة تحتكر السلاح، وتعيد الثقة بالقرار الاقتصادي والسياسي.
ثالثًا: البعد الرمزي والسياسي للحدث
يحمل افتتاح المعرض برعاية رئيس الجمهورية دلالات رمزية عميقة:
- رمزيًا: عودة الدولة إلى دور الراعي للإنتاج الوطني بعد سنوات من تغييب الصناعة لصالح القطاع المالي.
- سياسيًا: توحيد الخطاب الوطني حول “الاقتصاد المنتج” كخيار استراتيجي.
- استراتيجيًا: إدراج الصناعة في مشروع النهوض الوطني بوصفها أداة للسيادة الاقتصادية لا مجرد قطاع اقتصادي.
بهذا المعنى، يصبح المعرض منصة لإعادة بناء الهوية الاقتصادية للبنان على أسس إنتاجية حديثة، بعد مرحلة طويلة من التبعية الريعية.
رابعًا: التحديات البنيوية
رغم التفاؤل الرسمي، لا تزال العقبات الواقعية كبيرة:
- الطاقة: تشكّل الكهرباء أكثر من 30% من كلفة الإنتاج الصناعي.
- النقل واللوجستيات: ضعف المرافئ والطرقات يعوق الصادرات.
- التمويل: انعدام القروض التسهيلية بعد أزمة المصارف.
- الرقابة: تهريب وإغراق سلعي يهددان التنافسية المحلية.
- التخطيط الصناعي: غياب التكامل بين المناطق الصناعية والجامعات والمرافئ.
تجاوز هذه التحديات يتطلّب رؤية متكاملة تجمع الإصلاح المالي بالتحول الرقمي والحوكمة الصناعية الرشيدة.
خامسًا: نحو اقتصاد صناعي ذكي ومستدام
من منظور علم الاقتصاد السياسي، يمثل معرض الصناعات اللبنانية 2025 منعطفًا استراتيجيًا في رؤية الدولة لنفسها: من مستهلكة إلى منتجة، ومن اقتصاد هشّ إلى اقتصاد سيادي.
فإذا تحولت الاستراتيجية الوطنية من وثيقة إلى برنامج تنفيذي بشراكة حقيقية بين الدولة والقطاع الخاص، يمكن للبنان أن:
- يضاعف صادراته خلال خمس سنوات.
- يوفر أكثر من 100 ألف فرصة عمل جديدة.
- يعيد التوازن إلى ميزان المدفوعات.
لكن هذا النجاح مشروط بـ استقرار سياسي ونقدي، وإصلاح إداري وجمركي حقيقي، ودمج الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي في التصنيع.
الخاتمة: الصناعة بوصفها طريق السيادة
يمثل معرض الصناعات اللبنانية 2025 أكثر من حدث اقتصادي؛ إنه بيان وطني جديد يعلن بداية مرحلة إنتاجية عقلانية تقودها التكنولوجيا والمعرفة.
فبين “المهن التي اختفت” و“الوظائف التي تولد”، يقف لبنان اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء اقتصاده على أسس العلم، الابتكار، والاستدامة.
إن الصناعة الذكية ليست مجرد خيار تنموي، بل خيار وجودي لاستعادة السيادة الاقتصادية،
وتحويل شعار “صنع في لبنان” إلى رمز ثقة عالمية.
فالاقتصاد لا يُبنى بالخطابات، بل بالإنتاج،
ولا تُقاس قوة الدولة بما تملكه من ودائع، بل بما تصنعه من قيمة.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية