كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
يسجل مؤشر الدولار الأمريكي في مستهل الأسبوع مكاسب طفيفة ليقترب من مستوى 99.75 خلال جلسة التداول الآسيوية، في وقتٍ يتسم بالحذر والترقب من جانب المتعاملين في الأسواق العالمية. وهذا الارتفاع المتواضع يأتي وسط تراجع الرهانات على خفض أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي، مما منح الدولار دفعة محدودة لكنها مهمة من منظور الثقة. ومن وجهة نظري، فإن هذا السلوك السعري لا يعكس قوة حقيقية في الأساسيات بقدر ما يعبر عن مرحلة “التوقف المؤقت” في مسار الضعف الذي لازم الدولار خلال الأسابيع الماضية، في انتظار محفز جديد قد يأتي من بيانات التصنيع المرتقبة.
والأسواق الآن تتحرك على إيقاع دقيق بين بيانات الاقتصاد الحقيقي من جهة، وتوجهات السياسة النقدية من جهة أخرى. فالاحتياطي الفيدرالي، رغم إقدامه على خفض الفائدة في أكتوبر بمقدار 25 نقطة أساس كما كان متوقعًا، ترك الباب مفتوحًا أمام توقف طويل قبل أي خطوة جديدة. وتصريحات رئيس الفيدرالي جيروم باول التي شدد فيها على ضرورة “رؤية صورة أوضح للاقتصاد” قبل اتخاذ قرارات إضافية، كانت بمثابة رسالة موجهة للأسواق مفادها أن البنك لن يغامر بخفض مفرط للفائدة على حساب استقرار الأسعار. لذا أرى أن هذه الرسائل تعكس توازنًا صعبًا يحاول الفيدرالي تحقيقه بين احتواء التضخم ودعم النمو، وهي معادلة تميل كفتها حاليًا لصالح الدفاع عن استقرار الأسعار، حتى وإن كان ذلك على حساب تباطؤ اقتصادي مؤقت.
ومما يدعم هذا التحليل هو لهجة التشدد التي صدرت عن عدد من مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي مؤخرًا، ومن بينهم لوري لوغان من فرع دالاس وبيث هاماك من كليفلاند، واللتان أعربتا عن تفضيلهما الإبقاء على الفائدة دون تغيير في الاجتماع الأخير. كذلك أبدى جيف شميد من بنك الاحتياطي الفيدرالي في كانساس سيتي موقفًا مشابهًا، محذرًا من مخاطر التضخم المتصاعد. هذه الأصوات المتشددة داخل المجلس لا تمثل مجرد آراء فردية، بل تعكس إدراكًا متزايدًا بأن التسرع في التيسير النقدي قد يقوّض ما تحقق من استقرار نسبي في الأسعار. من هذا المنطلق، أتوقع أن يظل الدولار مدعومًا على المدى القصير طالما بقيت نبرة الفيدرالي حازمة ومرتبطة بالبيانات.
ورغم ذلك، فإن تحركات مؤشر الدولار الأخيرة لا تعني بالضرورة بداية مسار صعودي جديد. فاحتمالات خفض الفائدة في ديسمبر، وإن تراجعت من 93% إلى نحو 68%، ما تزال قائمة. وهذا يعني أن المستثمرين لم يقتنعوا بعد بأن الفيدرالي سيُجمّد سياسته بالكامل. بل إن أي إشارات ضعف في البيانات القادمة – وخاصة في مؤشر مديري المشتريات الصناعي (ISM) – قد تعيد الزخم سريعًا لتوقعات الخفض، مما قد يضغط على الدولار مجددًا. وبرأيي، السوق اليوم في حالة “توازن هش”، حيث يتنافس عامل السياسة النقدية مع عامل الأداء الاقتصادي في توجيه المسار، وأي ميل في أحد الاتجاهين قد يغير الصورة جذريًا.
وبيانات مؤشر مديري المشتريات الصناعي المنتظرة اليوم تُعد اختبارًا حقيقيًا لهذا التوازن. فالمؤشر، بصفته مقياسًا رائدًا لنشاط قطاع التصنيع، يُستخدم عادة كمؤشر مبكر على صحة الاقتصاد الأمريكي. إذا جاءت القراءة أعلى من التوقعات، فستُعزّز منطق الفيدرالي في التريث وستُقوي الدولار مؤقتًا، أما إذا خيّبت الآمال وأظهرت انكماشًا أعمق في النشاط الصناعي، فقد تُنعش توقعات خفض الفائدة وتدفع المتداولين إلى تقليص مراكزهم الطويلة على العملة الأمريكية. ومن وجهة نظري، الاحتمال الثاني أكثر ترجيحًا في ضوء إشارات التباطؤ التي بدأت تظهر في مؤشرات الطلب المحلي والإنفاق الاستهلاكي.
ومن زاوية أخرى، يظل المشهد السياسي الداخلي عاملًا لا يمكن تجاهله. استمرار حالة الجمود بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن الإغلاق الحكومي الذي دخل أسبوعه السادس يشكل مصدر قلق متزايد للأسواق. فكلما طال أمد الإغلاق، زادت المخاطر على النمو وثقة المستهلكين، وهو ما قد ينعكس سلبًا على الدولار في نهاية المطاف. أرى أن المستثمرين قد بدأوا في إدراك أن قوة الدولار الحالية لا تستند إلى زخم اقتصادي حقيقي، بل إلى فراغ نسبي في البدائل العالمية، خاصة في ظل ضعف اليورو والين. غير أن هذا الدعم المؤقت لا يمكن أن يصمد طويلًا إذا استمرت الضبابية السياسية وتباطأ النشاط الصناعي الأمريكي.
والآن يواجه مؤشر الدولار مقاومة قوية بالقرب من مستوى 100 النفسي، وهو حاجز لم يتمكن من تجاوزه في الأسابيع الماضية. واستمرار التداول دون هذا المستوى يعزز فكرة أن الارتفاع الحالي تصحيحي أكثر منه بداية لاتجاه صاعد جديد. أما كسر الدعم عند 99.30 فسيشير إلى بداية موجة تصحيح أعمق قد تمتد إلى نطاق 98.70، خصوصًا إذا خيبت بيانات التصنيع توقعات السوق. لذا، أرى أن أي محاولة لاختبار مستوى 100 ستتطلب مفاجأة إيجابية قوية في البيانات الاقتصادية، وهو ما لا يبدو مرجحًا في المدى القريب.
وفي المجمل، يمكن القول إن الدولار الأمريكي يقف حاليًا عند مفترق طرق حساس. فبين نبرة الفيدرالي المتشددة ومؤشرات الاقتصاد التي تميل إلى التباطؤ، يجد المتداولون أنفسهم أمام معادلة معقدة تتطلب قراءة دقيقة للبيانات القادمة. توقعاتي تشير إلى أن مؤشر الدولار قد يحافظ على نطاق تداول ضيق حول مستواه الحالي حتى تتضح نتائج بيانات التصنيع، مع ميل طفيف نحو التراجع في حال تأكد ضعف القطاع الصناعي أو تصاعد المخاطر السياسية في واشنطن. وفي رأيي، فإن أي قوة في الدولار خلال الأيام المقبلة يجب النظر إليها على أنها فرصة مؤقتة للمستثمرين قصيري الأجل، أكثر من كونها إشارة على تحوّل هيكلي في الاتجاه العام للعملة الأمريكية.
و يبدو أن السوق يعيش لحظة توازن دقيقة، حيث يُمسك الدولار بزمام الدعم النفسي لكنه يفتقر إلى المحركات الاقتصادية المستدامة. المستقبل القريب سيحدده الأداء الصناعي الأمريكي والسياسة النقدية الفيدرالية، ولكن الأهم من ذلك هو مدى قدرة الاقتصاد الأمريكي على الحفاظ على زخمه وسط ضغوط التضخم والإغلاق الحكومي. وحتى تتضح الصورة بالكامل، سيظل الدولار يتحرك بين الشك واليقين، وبين التفاؤل الحذر ومخاوف التباطؤ.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية