كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
تراجع زوج الدولار الأمريكي/الين الياباني في الآونة الأخيرة نحو 152.86 نقطة لم يكن مجرد حركة فنية عابرة في سوق العملات، بل هو انعكاس مباشر لتحول أعمق في تحركات السياسة النقدية العالمية، حيث تتقاطع إشارات الحذر من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مع مؤشرات استقرار متزايدة في الاقتصاد الياباني. وبرايي اقتصاديًا يجب مراقبة سلوك العملات الرئيسية، وأرى أن هذا التراجع يعبر عن مرحلة انتقالية في مسار الدولار الأمريكي، وعن عودة تدريجية للين الياباني كملاذ آمن تدعمه البيانات الاقتصادية المحلية القوية والسياسة النقدية المدروسة لبنك اليابان.
ومن الواضح أن ضعف الدولار الأمريكي في الأسابيع الأخيرة يرتبط بعدة عوامل متداخلة، أبرزها النبرة الحذرة التي يتبناها مجلس الاحتياطي الفيدرالي. فبعد خفض محدود في أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، أشار رئيس الفيدرالي جيروم باول بوضوح إلى أن المزيد من التيسير ليس أمرًا محسومًا، وهو ما أرسل إشارة مزدوجة إلى الأسواق: من جهة، يعكس ذلك قلق الفيدرالي من تباطؤ النمو، ومن جهة أخرى يؤكد أنه لن يغامر بإضعاف العملة الأمريكية في ظل تضخم لا يزال فوق المستهدف. وهذه الرسائل دفعت المستثمرين إلى إعادة تسعير توقعاتهم، فتراجعت احتمالات خفض الفائدة في ديسمبر، مما قلل شهية المخاطرة تجاه الدولار، خصوصًا مع استمرار حالة الغموض المرتبطة بالإغلاق الحكومي الأمريكي وتأجيل نشر بيانات اقتصادية رسمية مهمة.
وفي المقابل، أظهر الاقتصاد الياباني تماسكا ملحوظا، مدعوما ببيانات قوية في قطاعي العمالة والخدمات. فقد سجلت أرباح العمل النقدية ارتفاعا بنسبة 1.9% على أساس سنوي، وهو مما يعكس تحسن القوة الشرائية للأسر اليابانية واستقرار سوق العمل. كما تجاوز مؤشر مديري المشتريات الخدمي من بنك جيبون التوقعات مسجلا 53.1 نقطة، مما يؤكد استمرار التوسع في هذا القطاع الحيوي. وهذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات ظرفية، بل تعبّر عن تحسن بنيوي في الأداء الاقتصادي، مما يعزز ثقة المستثمرين في قدرة اليابان على تجاوز مرحلة الركود التضخمي التي عانت منها لفترات طويلة. وبالنسبة لي، فإن هذه التطورات تمنح الين دعما أساسيا ومستداما، وليس مؤقتا كما كان الحال في فترات سابقة.
ومن المهم الإشارة إلى أن بنك اليابان، رغم حفاظه على سعر الفائدة عند 0.50%، أظهر في محضر اجتماعه الأخير ميلا تدريجيا نحو تغيير السياسة النقدية. فرغم إصراره على أن أسعار الفائدة الحقيقية ستظل منخفضة للغاية، إلا أن النبرة العامة توحي بوجود استعداد متزايد للتحرك بوتيرة محسوبة إذا تحققت التوقعات المتعلقة بالنمو والتضخم. ومن وجهة نظري، فإن هذا التوازن بين التريث والحذر يُعتبر أحد أهم أسباب استقرار الين في الوقت الحالي، لأنه يطمئن المستثمرين إلى أن بنك اليابان لن يتسرع في رفع الفائدة بما يضر النمو، ولن يتباطأ بما يُبقي العملة ضعيفة بشكل مفرط. وهذه السياسة الوسطية تمنح الأسواق ثقة وتدعم جاذبية الين كعملة احتياطية مستقرة نسبيا.
أما في الجانب الأمريكي، فإن حالة التردد لدى الفيدرالي تضع الدولار في موقف معقد. فبينما لا يريد البنك المركزي أن يظهر متشددا بما يعرقل النمو، فإنه في الوقت نفسه لا يستطيع التراجع السريع عن سياسته خوفا من عودة الضغوط التضخمية. وهذا التوازن الصعب يجعل تحركات الدولار حساسة لأي بيانات جديدة. ومن وجهة نظري، فإن غياب البيانات الحكومية بسبب الإغلاق المطول يزيد من هشاشة الموقف، لأن الأسواق تعتمد على مؤشرات القطاع الخاص مثل ADP وISM، وهي مؤشرات جيدة لكنها ليست شاملة. لذلك أرى أن أي مفاجأة سلبية في البيانات المقبلة قد تسرع من تراجع الدولار مجددا، خصوصا أمام العملات التي تمتلك دعما داخليا متينا مثل الين الياباني.
ومن وجهة نظري، هبوط زوج الدولار/الين إلى مستوى 152.86 لا يبدو نهاية الاتجاه، بل بداية تصحيح أعمق قد يمتد نحو مستويات 151 وربما 149 إذا استمرت العوامل الأساسية في الاتجاه ذاته. فالتراجع لا يعتمد فقط على ضعف الدولار، بل أيضا على تحسن الطلب على الين كعملة ملاذ في ظل تصاعد المخاطر الجيوسياسية والمالية. ومع تزايد قلق المستثمرين العالميين من تباطؤ الاقتصاد الأمريكي واحتمال امتداد آثار الإغلاق الحكومي، من الطبيعي أن يعيد السوق توزيع مراكزه نحو الأصول الآمنة، وهو ما يفسر زيادة الطلب على الين والذهب في آن واحد.
وبالنظر إلى المدى المتوسط، أعتقد أن مسار الين سيبقى مدعوما بالأساسيات، وأن بنك اليابان يمتلك الآن مساحة أكبر لمناورة حذرة تسمح له بامتصاص أي صدمات خارجية دون فقدان السيطرة على معدلات الفائدة أو التضخم. في المقابل، سيظل الدولار الأمريكي رهينة المعطيات السياسية الداخلية وتذبذب التوقعات حيال سياسة الفيدرالي. وإذا استمر غياب الوضوح في الموقف الأمريكي، فقد نشهد مرحلة تمتاز بتقلبات حادة في الأسواق، يكون فيها الين الرابح الأكبر بفضل تزايد الإقبال على الأمان والاستقرار.
استراتيجياً، أرى أن هذه المرحلة تمثل فرصة لإعادة تقييم النظرة التقليدية للعلاقة بين الدولار والين. فبعد سنوات كان فيها الين أداة تمويل منخفضة العائد، أصبح اليوم يُعامل كعملة ذات أساس اقتصادي أكثر توازنا. وإذا واصل الاقتصاد الياباني إظهار مؤشرات إيجابية على صعيد الأجور والإنتاج والخدمات، فإن احتمالات عودة الين إلى مستويات ما قبل التيسير المفرط تبدو أكثر واقعية من أي وقت مضى. أما الدولار، فسيحتاج إلى بيانات نمو قوية وتضخم متراجع بوضوح حتى يستعيد زخمه السابق.
وفي المحصلة، يمكنني القول إن تراجع زوج الدولار الأمريكي/الين الياباني هو انعكاس لتغير أعمق في مزاج السوق العالمي. ولقد فقد الدولار بعضا من بريقه كملاذ مطلق مع ازدياد الضبابية الداخلية، بينما بدأ الين يستعيد دوره كعملة استقرار مدعومة ببيئة اقتصادية أكثر تماسكًا. وبالنسبة لي، أرجّح أن الاتجاه العام سيظل في صالح الين على المدى القريب، مع احتمالات محدودة لعودة الدولار إلى مسار الصعود قبل أن تتضح معالم السياسة الأمريكية في الأشهر المقبلة. هذه المرحلة الانتقالية تُظهر أن الأسواق لا تتحرك فقط بالأرقام، بل أيضًا بالتوقعات والثقة، وهما عنصران يبدو أن اليابان نجحت مؤخرًا في استعادتهما بجدارة.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية