كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
تواصل البيتكوين إظهار علامات ضعف واضحة تهدد موقعها كأصل رقمي مهيمن وتلقي بظلالها الثقيلة على سندات الخزانة العامة المرتبطة بها، التي كانت حتى وقت قريب تُعدّ من بين أكثر الأدوات الاستثمارية ابتكارًا في العالم المالي الجديد. فالمشهد اليوم يشير بتحولٍ في المزاج المؤسسي، وانكماشٍ في شهية المخاطرة، وتراجعٍ في الثقة تجاه أدوات التمويل القائمة على البيتكوين. لذا، أرى أن ما يجري ليس مجرد تصحيح سعري عابر، بل هو مرحلة انتقالية حاسمة قد تعيد تشكيل علاقة الأسواق التقليدية بالعملات المشفرة خلال الأشهر المقبلة.
وتشير بيانات حديثة إلى أن متوسط المشتريات اليومية من البيتكوين من قبل الشركات العامة انخفض إلى أدنى مستوى له منذ عام كامل، مسجلًا نحو 656 بيتكوين فقط في أكتوبر، قبل أن يتراجع أكثر بنسبة 42% في الأيام العشرة الأولى من نوفمبر ليصل إلى 375 بيتكوين يوميًا. وهذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات فنية، بل تعبّر عن فتورٍ واضح في الطلب المؤسسي الذي كان أحد أعمدة الدعم الرئيسية لصعود البيتكوين في السنوات الأخيرة. في الوقت ذاته، ويتم تداول نصف سندات الخزانة العامة للبيتكوين بخصمٍ على صافي أصولها، وهو مؤشر صريح على تآكل ثقة المستثمرين في قدرة هذه الأدوات على تحقيق قيمة مضافة أو حماية رأس المال في بيئة مالية أكثر تشددًا.
كما إن ضعف القيمة السوقية إلى صافي قيمة الأصول (mNAV) لدى العديد من الشركات الحاملة للبيتكوين يعكس واقعًا أعمق من مجرد تراجع سعر العملة نفسها. فالكثير من هذه الشركات كانت تعتمد على إصدار الأسهم بعلاوةٍ على صافي قيمتها خلال الفترات الصعودية لتوسيع تعرضها للبيتكوين، كما فعلت شركة “Strategy” الأمريكية التي جمعت مليارات الدولارات في الربعين الثاني والثالث من عام 2025. لكن مع انهيار الأقساط واهتزاز الثقة، اضطرت بعض هذه الشركات إلى بيع جزء من حيازاتها أو إطلاق برامج لإعادة شراء الأسهم لتغطية فجوات صافي الأصول. والنتيجة: انحسار واضح في الطلب الفوري على البيتكوين وانخفاض في مستويات التراكم المؤسسي، ما أدى إلى مزيد من الضغط على الأسعار.
وتشير تقارير المؤسسات الكبرى في المجال إلى أن القيم الصافية للأصول الضعيفة لدى شركات الخزانة ليست سوى انعكاس لتخفيفٍ مفرط ومشهدٍ مشبع بالمنافسة وضعفٍ عام في الطلب. شركة “Strategy” نفسها، التي كانت في طليعة المراهنين على البيتكوين كمخزنٍ للقيمة، تباطأ معدل تراكمها من 18.3% في الربع الأول إلى 7.1% فقط في الربع الثالث من عام 2025، واشترت منذ بداية الربع الرابع 1,661 بيتكوين فقط، وهو رقم متواضع بالنظر إلى استراتيجيتها التاريخية. وانخفض مؤشر mNAV الخاص بها إلى 1.009، وهو من أدنى مستوياته منذ عام 2023، ما يعكس ضغوطًا مالية متزايدة وتراجعًا في الثقة المؤسسية.
وفي المقابل، استفاد بعض المستثمرين الكبار من هذا الانكماش. جيم تشانوس، المعروف بعملياته في البيع على المكشوف، حقق عوائد تجاوزت 125% بعد تنفيذ استراتيجية مزدوجة تضمنت بيع أسهم MSTR وشراء البيتكوين بشكل مباشر. غير أن هذه المكاسب الفردية جاءت على حساب المستثمرين الأفراد الذين تكبدوا خسائر تقدر بنحو 17 مليار دولار نتيجة شرائهم الأصول الرقمية بأسعار تفوق قيمتها العادلة خلال موجة الصعود السابقة. وهذه الخسائر المتراكمة ساهمت في تعميق حالة الحذر، ودفع المستثمرين إلى تقليص تعرضهم للبيتكوين ومنتجاتها الاستثمارية.
ومنذ عملية سحب الرافعة المالية في 10 أكتوبر، شهدت منتجات الاستثمار في البيتكوين تدفقات خارجة بلغت 29,008 بيتكوين، وهي أسوأ فترة تدفقات خلال 30 يومًا منذ مارس 2025، وأضعف أداء منذ عام 2024 بأكمله. هذا النزيف يعكس مرحلة “خفض المخاطر” التي يمر بها السوق، حيث يسعى المستثمرون إلى تقليص المراكز المفتوحة والابتعاد عن الأصول ذات التقلب العالي في ظل غموض المشهد النقدي العالمي وارتفاع العوائد على السندات التقليدية. ومع ذلك، ارى أن هذه التدفقات السلبية قد تكون مؤقتة، وأن السوق يقترب من نقطة توازن جديدة قد تعيد تدفقات رأس المال الإيجابية خلال الربع الأول من عام 2026.
ومن وجهة نظري، لا يمكن النظر إلى ضعف البيتكوين وسنداتها العامة بمعزل عن التحولات الأوسع في الاقتصاد العالمي. فالتضييق النقدي المستمر، وارتفاع أسعار الفائدة، وتنامي جاذبية أدوات الدخل الثابت كلها عوامل تقلل شهية المستثمرين تجاه الأصول الرقمية. ومع ذلك، فإن التاريخ المالي يعلمنا أن كل مرحلة من التراجع في الأسواق الصاعدة تحمل في طياتها فرصة لإعادة التقييم والتصحيح. وما يحدث اليوم هو عملية “غربلة” صحية قد تؤدي إلى بروز أدوات مالية رقمية أكثر نضجًا وواقعية، وإلى إعادة توزيع الأدوار بين المؤسسات والمستثمرين الأفراد في منظومة البيتكوين.
لذا أتوقع أن تستمر حالة الضعف النسبي للبيتكوين حتى نهاية الربع الأول من عام 2026، مع نطاق تداول محدود بين 90 و110 آلاف دولار، قبل أن تبدأ موجة استقرار تدريجية مدفوعة بعودة السيولة وتحسن شهية المخاطرة في الأسواق العالمية. أما سندات الخزانة العامة للبيتكوين، فستظل في الظل خلال هذه المرحلة، إلى أن تستعيد الأسواق ثقتها بقدرتها على عكس القيمة الحقيقية للأصل الأساسي. لكن على المدى الأطول، قد تكون هذه الأزمة مقدمةً لتطورٍ نوعي في بنية التمويل الرقمي، حيث تتبلور نماذج أكثر شفافية وكفاءة تُعيد تشكيل المشهد المالي بما يدمج الأصول المشفرة في النظام المالي التقليدي بصورة أكثر توازنًا واستدامة.
كما إن ضعف البيتكوين اليوم ليس إعلانًا عن نهايتها، بل تذكيرٌ بقانون الأسواق الأبدي: لا صعود بلا تصحيح، ولا ابتكار بلا إعادة تقييم. وإذا كانت سندات الخزانة العامة للبيتكوين أولى الضحايا في هذه المرحلة، فقد تكون أيضًا أول من ينهض مجددًا عندما تتضح ملامح الدورة المالية القادمة.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية