د. خالد عيتاني رئيس لجنة الطوارىء الإقتصادية
مقدمة
في السنوات الأخيرة، لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات نستخدمها، بل أصبحت القوة الخفية التي تعيد تشكيل الحياة والعمل والاقتصاد. تغيّر شكل الوظائف، تغيّرت المؤسسات، تغيّرت طرق التعلم، وتغيّر معها مستقبل ملايين الشباب. وفي الشرق الأوسط تحديدًا، برز التحول الرقمي ليس كخيار تنموي، بل كضرورة وجودية؛ ضرورة تمسّ القدرة على المنافسة، واستقطاب الاستثمار، وحماية القوة الاقتصادية للأجيال القادمة.
لقد تجاوز العالم نقطة العودة. نحن نقف اليوم عند بوابة عصر جديد، تتقدم فيه الدول التي تستثمر في المهارات الرقمية والذكاء الاصطناعي، وتتراجع تلك التي لا تمتلك رؤية واضحة لبناء رأس مال بشري قادر على مواكبة الثورة الرابعة. وبينما يتسارع التطور العالمي، لا تزال الفجوة بين ما يحتاجه سوق العمل وبين ما تنتجه الأنظمة التعليمية في اتساع، ما يشكّل تهديدًا مباشرًا للنمو والإنتاجية في المنطقة.
هذا المقال يحاول قراءة المشهد بعمق، بالأرقام والمعطيات، ليمسك بيد القارئ نحو فهم أوضح للعلاقة بين المهارات الرقمية وسوق العمل والتخصصات الجامعية، ويطرح رؤية متكاملة نحو اقتصاد المستقبل.
مهارات تُغيّر شكل الاقتصاد والعمل
تشير تقارير LinkedIn Economic Graph وWorld Bank لعامَي 2024–2025 إلى أن سوق العمل في الشرق الأوسط يشهد تحولًا جوهريًا:
- 70% من الوظائف الجديدة أصبحت رقمية أو تتطلب مهارات رقمية مركبة.
- واحدة من كل ثلاث وظائف مُعلن عنها تشترط مهارة رقمية واحدة على الأقل.
- 23% من الوظائف الرقمية أصبحت تتطلب مهارات ذكاء اصطناعي بشكل مباشر.
وتتضمن هذه المهارات:
- تعلم الآلة
- تحليل البيانات
- النمذجة التنبؤية
- الخوارزميات
- استخدام منصات الذكاء الاصطناعي التوليدي
لقد أصبحت المهارات الرقمية اللغة الجديدة لسوق العمل، في كل القطاعات: الصحة، التمويل، الصناعة، التعليم، الطاقة، النقل، اللوجستيات، وحتى في الأعمال الحكومية.
الخليج نموذجًا: اقتصاد عالي التقنية
تشير تقارير Lightcast وLinkedIn إلى أن دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات وقطر، تقود موجة التوظيف الرقمي في المنطقة:
- 29% من التوظيف في السعودية خلال 2024 كان في وظائف مرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
- استقطبت المملكة أكثر من 40 مليار دولار من الاستثمارات في AI وCloud Computing
- تضاعف الطلب على وظائف مثل:
- مهندس بيانات
- عالم بيانات
- مطور ذكاء اصطناعي
- مهندس سحابة
- مهندس أمن سيبراني
- مدير منتجات رقمية
هذه المؤشرات تعكس تحول الخليج إلى اقتصاد عالي التقنية، يقوده الابتكار والحوسبة السحابية وتحليل البيانات، بدلًا من الاعتماد على القطاعات التقليدية فقط.
الفجوة الرقمية… أزمة تتجاوز التعليم
رغم كل هذا النمو، تكشف التقارير الدولية، وخاصة تقارير البنك الدولي لعام 2025، عن أرقام مقلقة:
- 70% من قادة الشركات في الشرق الأوسط يؤكدون أن نقص المهارات الرقمية هو التهديد الأكبر لأعمالهم.
- 45% من الوظائف الحالية في المنطقة معرضة للأتمتة خلال 10 سنوات (McKinsey 2024).
- أكثر من 23 مليار دولار خسائر سنوية ناتجة عن نقص الكفاءات الرقمية (PwC Middle East 2024).
السبب؟
أنظمتنا التعليمية لا تزال بعيدة عن واقع السوق.
برامج الجامعات لا تُخرّج العدد الكافي من المتخصصين في:
- علم البيانات
- الذكاء الاصطناعي
- الأمن السيبراني
- هندسة البرمجيات
- الحوسبة السحابية
بل لا يزال جزء كبير من الطلاب يتجه إلى تخصصات تقليدية فقدت قوة الطلب عليها.
العلاقة بين المهارات وسوق العمل والتخصصات الجامعية
1. مهارة → وظيفة → تخصص جامعي
وفقًا لبيانات UNESCO وOECD:
من يمتلك المهارة يحصل على الوظيفة، ومن يدرس التخصص المناسب يحصل على المهارة.
أمثلة واضحة:
تحليل البيانات (Data Analysis)
- الوظائف : Data Analyst – BI Analyst
- التخصصات : Data Science – Statistics – MIS
الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)
- الوظائف : AI Engineer – Machine Learning Specialist
- التخصصات : Artificial Intelligence – Computer Science – Software Engineering
الأمن السيبراني (Cybersecurity)
- الوظائف : SOC Analyst – Pen Tester – Cybersecurity Architect
- التخصصات : Cybersecurity – Network Engineering – Computer Engineering
الحوسبة السحابية (Cloud Computing)
- الوظائف : Cloud Engineer – DevOps Engineer – Cloud Architect
- التخصصات : Computer Engineering – Information Systems – IT Engineering
تطوير البرمجيات (Software Development)
- الوظائف : Full Stack Developer – App Developer
- التخصصات : Software Engineering – Computer Science
المعادلة بسيطة:
كلما كانت المهارات أقوى، كانت الوظائف أوسع، وكانت الفرص المالية أكبر.
اقتصاد المستقبل: المهارات الرقمية هي رأس المال الجديد
وفق تقرير PwC، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يضيف 320 مليار دولار لاقتصادات الشرق الأوسط بحلول 2030.
لكن هذا الرقم مشروط بقدرة الدول على إنتاج المواهب الرقمية.
الدول التي تستثمر في الإنسان الرقمي:
- ستجذب الاستثمارات
- سترفع الإنتاجية
- وستصبح جزءًا من اقتصاد عالمي جديد قائم على البيانات
أما الدول التي تتأخر عن ذلك:
- ستتراجع
- وستفقد ميزتها التنافسية
- وقد تتحول من منتجة للتكنولوجيا إلى مستهلكة لها فقط
خاتمة شاملة
الشرق الأوسط اليوم يقف عند مفترق طرق. التحول الرقمي ليس حدثًا تقنيًا، بل تحول اقتصادي واجتماعي وثقافي شامل. الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والبيانات الضخمة لم تعد أدوات مستقبلية، بل واقعًا يشكّل الوظائف والدخل والاستثمار.
إن بناء اقتصاد رقمي قوي يبدأ من الإنسان: من الطالب، من الموظف، من المؤسسة، من الجامعة.
وإذا أردنا مستقبلًا أكثر تنافسية واستقرارًا، فإن الطريق واضح:
استثمر في المهارات… تملك المستقبل.
أهمل المهارات… تخسر السوق.
توصيات فاعلة
1. إصلاح التعليم جذريًا
- دمج البرمجة، تحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي في التعليم المدرسي والجامعي.
- تحديث مناهج الجامعات لتتوافق مع الوظائف المطلوبة.
2. إطلاق برامج وطنية للمهارات الرقمية
بالتعاون بين:
الحكومات – الجامعات – القطاع الخاص – شركات التكنولوجيا العالمية.
3. نشر ثقافة التعلم مدى الحياة
- تقديم منح تدريبية
- برامج إعادة تأهيل وظيفي
- شهادات قصيرة (Micro-credentials)
4. دعم الابتكار وريادة الأعمال التقنية
- حاضنات أعمال
- مسرعات رقمية
- صناديق استثمار في الشركات الناشئة التقنية
5. شراكات قوية مع شركات التكنولوجيا العالمية
AWS – Google – Microsoft – Nvidia – Cisco – Huawei
لتوفير التدريب والشهادات والفرص الوظيفية
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية