قراءة سياسية–اقتصادية شاملة في سقوط النموذج اللبناني وارتباك منظومته
د. خالد عيتاني رئيس لجنة الطوارىء الإقتصادية
لم يكن ظهور حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة عبر قناة “العربية Business” حدثًا إعلاميًا عابرًا. كان ذلك الظهور أشبه بمحاولة متأخرة لكتابة رواية مضادة للتاريخ القريب، في لحظة يتكثّف فيها التحقيق الدولي والداخلي حول أكبر انهيار مالي–نقدي عرفه بلد في زمن السلم. بدا سلامة هادئًا، ثابت النبرة، مصراً على أنّه لم يكن سوى “كبش فداء”، ضحية “مؤامرة سياسية دقيقة وواسعة” بدأت – بحسب اعترافه – منذ عام 2015، واستهدفت ضرب القطاع المصرفي وإسقاط الهندسات المالية.
لكنّ ما أخفاه خطابه، أو مرّ عليه بخفة، يتجاوز التصريحات إلى أعماق هندسة الانهيار المالي نفسها: من ملفات “فوري” و“أوبتيموم”، إلى التدقيق الجنائي لشركة Alvarez & Marsal، إلى التلاعب المحاسبي، إلى المسارات القانونية في لبنان وأوروبا، إلى توازنات القوى التي حمت حاكمية مصرف لبنان سنوات طويلة، ثم تخلّت عنه عند مفترق الحساب السياسي.
أولًا: رواية سلامة — محاولة ترميم الصورة بعد الانهيار
في مقابلة مدروسة الإخراج، قدّم سلامة نسخته الخاصة من الأحداث. ففي نظره، لم تكن الأزمة نتيجة سياسات نقدية خاطئة أو هندسات كارثية، بل كانت ثمرة صراع سياسي بين مراكز القوى داخل لبنان وخارجه.
أكّد سلامة أنّ:
- ثروته قبل الحاكمية تجاوزت 20 مليون دولار، مصدرها عمله العريق في “ميريل لينش”.
- وأنّه طلب بنفسه عام 2021 تدقيقًا في حساباته الشخصية، “لم يجد دخول أي مال غير شرعي”.
- وأنه غير مدان في أي دولة، وأنّ ما يجري هو “تشهير سياسي”، وليس مسارًا قضائيًا مبنيًا على الأدلة.
- وأنه واجه هجومًا من “حكومة الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر”، بعدما رفض تمويل العجز في الكهرباء وعمليات إنفاق أخرى.
- وأنّ الانهيار سببه: الاحتجاجات، تخلف الدولة عن السداد، حرب سوريا، انفجار المرفأ، كورونا، والانقسام السياسي.
كذلك طمأن المودعين أن الودائع لم تضِع، طالما أن المصارف “لم تعلن إفلاسها”، مستندًا إلى قراءته الخاصة لطبيعة “الدولارات الدفترية”.
هذه هي رواية الدفاع كاملة:
سلامة ليس المذنب، بل الضحية.
الهندسات ليست سرقة، بل حماية.
الهجوم ليس قضائيًا، بل سياسي.
ثانيًا: الرواية المقابلة — ما تكشفه الوثائق التي لم يذكرها سلامة
1. ملف “أوبتيموم إنفست”: 8 مليارات دولار من الأرباح الفورية
بين 2015 و2020، نفّذ مصرف لبنان عمليات استثنائية مع شركة Optimum Invest، تمثّلت ببيع أدوات مالية ثم إعادة شرائها بسعر أعلى في اللحظة نفسها، ما أنتج أرباحًا فورية غير مبررة اقتصاديًا تجاوزت 8 مليارات دولار.
تقرير التدقيق الجنائي وثّق هذه العمليات باعتبارها آليات ضخّ أرباح مصطنعة لفئة ضيقة من الوسطاء والمصارف، دون منفعة عامة أو تفسير اقتصادي.
2. ملف “فوري”: 330 مليون دولار من العمولات المشبوهة
التحقيقات الأوروبية تعتبر شركة Forry Associates – المسجّلة باسم شقيقه – كيانًا وهميًا حصل على 330 مليون دولار من العمولات على سندات خزينة ويوروبوند، دون أن تؤدي الشركة أي خدمة حقيقية.
الأموال تدفقت من مصرف لبنان → إلى حسابات رجا سلامة → ثم إلى شركات وعقارات مرتبطة برياض سلامة في أوروبا.
على هذا الأساس، وُجهت إليه تهم تبييض الأموال والاختلاس ضمن تنظيم إجرامي في فرنسا وسويسرا وألمانيا ولوكسمبورغ.
3. التدقيق الجنائي: تلاعب محاسبي وإخفاء خسائر
تقرير Alvarez & Marsal كشف أنّ مصرف لبنان اعتمد:
- تسجيل الخسائر كـ “أصول مؤجّلة” بقيمة تفوق 60 مليار دولار.
- حيلًا محاسبية لتضخيم ميزانياته وتقليل تقدير الانهيار الحقيقي.
- عمولات غير مشروعة بقيمة 111 مليون دولار.
وصف التقرير هذه الممارسات بـ “سوء السلوك” و“الإدارة عالية المخاطر”، أي أنها اختلالات منهجية وليست أخطاء عابرة.
4. تجميد أصول وحسابات في أوروبا
عدة دول أوروبية جمّدت عقارات وحسابات مرتبطة بسلامة، وعائلته، وشركاته، باعتبارها مشتبهًا بأنها ناتجة عن عمليات تبييض أموال مرتبطة بملف “فوري”.
ثالثًا: المقاربة السياسية — من يحكم الاقتصاد اللبناني؟
1. دور الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر
منذ 2008، حكم لبنان تحالف سياسي شكّل المظلة الحقيقية للحكومات المتعاقبة.
في عهد هذا التحالف:
- تفاقم عجز الكهرباء إلى 45 مليار دولار (التيار الوطني الحر).
- استمر الإنفاق العام بلا إصلاح، رغم توصيات البنك الدولي وصندوق النقد.
- اعتمد النموذج الريعي المالي، وجرى تعطيل الكابيتال كونترول عام 2019.
- تم تجديد ولاية سلامة أربع مرات متتالية بدعم هذا التحالف.
ثم، حين انهار النموذج، تغيّر الخطاب السياسي فتحوّل سلامة من “صانع الاستقرار” إلى “كبش الفداء”، رغم أنّ المنظومة نفسها استفادت من استقراره طوال عقدين.
2. لازار وصندوق النقد والبنك الدولي — صوت الخارج الذي رُفض
خطة Lazard عام 2020 قالت بوضوح:
- الخسائر = 73 مليار دولار
- مصرف لبنان مفلس
- المصارف مفلسة
- الدولة غير قادرة على السداد
لكن القوى السياسية رفضتها لأنها كشفت دور المصارف والسياسيين، وأصرّوا على تحميل مسؤولية الانهيار للحاكم وحده.
3. السياسة المالية والهندسات النقدية — التوأم السيامي
الهندسات المالية لسلامة لم تكن منعزلة.
بل كانت السند النقدي لسياسات الإنفاق السياسي.
السياسي كان يحتاج المال، وسلامة كان يضخّه عبر الهندسات.
سلامة يحتاج الغطاء، والسياسي يقدّمه.
وهكذا، في تزاوج فريد بين الهندسة النقدية والهندسة السياسية، سقط النموذج المالي.
رابعًا: بين الاتهامات والدفاع — أين تقف الحقيقة القانونية؟
حقائق الاتهام:
- قضايا رسمية في لبنان: اختلاس 42 مليون دولار، وإثراء غير مشروع.
- ملفات تبييض أموال في فرنسا وسويسرا ولوكسومبورغ وألمانيا.
- ملف “فوري”: 330 مليون دولار.
- تجميد أصول وعقارات أوروبية.
- نتائج التدقيق الجنائي: تلاعب محاسبي، سوء سلوك مالي، عمولات غير مشروعة.
حقائق الدفاع:
- ثروة سلامة قبل الحاكمية ثابتة زمنًا ومصدرًا.
- لم يصدر أي حكم إدانة نهائي ضده حتى الآن.
- أُسقطت مذكرة توقيف ألمانية لعدم توافر شروطها القانونية.
- طلب سابقًا تدقيقًا في حساباته الشخصية.
- كان يُعتبر دوليًا “الحاكم النموذجي” قبل 2019.
- انهيار الدولة وتخلّفها عن السداد سبق انهيار المصرف المركزي.
هذه هي حقائق الدفاع كما هي، دون تحريف أو استنتاج.
خامسًا: اللعبة الأخطر — لماذا يُفتح ملف سلامة ويُحاصَر في آن واحد؟
لبنان اليوم تحت ضغط مجموعة العمل المالي FATF، وقد وُضع على اللائحة الرمادية بسبب ضعف مكافحة تبييض الأموال.
التحقيق في ملفات فساد مالي كبرى – مثل سلامة – أصبح شرطًا دوليًا لا مفرّ منه.
لكن في الوقت نفسه، فتح الملف بالكامل يعني سقوط:
- الوزراء الذين أمروا بالإنفاق
- المصارف التي امتصت أرباح الهندسات
- القوى السياسية التي عطّلت الإصلاح
- مسؤولي الملفات الحساسة (الكهرباء، التوظيف، الدعم)
لذلك، فُتح ملف سلامة…
لكن حُصر “بدقة” ضمن ملف الـ 42 مليون دولار، مع إقصاء هيئة القضايا الممثّلة للدولة.
إنها ليست صدفة؛ إنها محاولة لإرضاء الخارج في الحدّ الأدنى، وحماية الداخل في الحدّ الأقصى.
خاتمة:
لم يعد الانهيار اللبناني مجرّد نتيجة أخطاء متراكمة، بل صار دليلًا بنيويًا على سقوط نموذج سياسي–اقتصادي كامل بُني على التواطؤ بين السلطة المالية والسلطة الحاكمة، وعلى اقتصاد ريعي مغشوش عاش عقدين على تدفقات الخارج ووعود الاستقرار المصطنع. إنّ قضية رياض سلامة ليست إلا الواجهة الأكثر وضوحًا لهذا النموذج: رجل واحد في مركز القرار، لكنه محاط بمنظومة كاملة استفادت من سياساته، ثم حاولت الانفصال عنه حين انهار الهيكل.
فالمشكلة ليست “سلامة مقابل الدولة”، بل دولة صنعت سلامة، وسلامة خدم نموذج الدولة… حتى انتهى الاثنان إلى هوّة واحدة.
ومن هنا، يصبح مستقبل لبنان مرهونًا بقرار جذري:
إما إعادة تدوير النموذج القديم بوجوه جديدة ووعود مُعادَة،
وإما الدخول في قطيعة فعلية تُعيد بناء النظام المالي والاقتصادي على قواعد تختلف جوهريًا عمّا عرفه البلد منذ التسعينيات.
ولتحقيق هذه القطيعة، تبرز مجموعة توصيات لا تحتمل التأجيل:
توصيات:
1. تثبيت الحقيقة المالية: الاعتراف بالخسائر وتوزيعها بعدالة
لا تعافٍ بلا وضوح. يجب تحديد الخسائر رسميًا، وتوزيعها وفق قاعدة:
الدولة تتحمّل ما أنفقته، المصارف ما جَنَته، كبار المودعين ما استفادوه، وصغار المودعين ما حُقَّ لهم.
هذا هو الحدّ الأدنى للعدالة ولإعادة الثقة.
2. إعادة هيكلة القطاع المصرفي بإزالة الأشلاء لا ترميمها
القطاع المصرفي بشكله الراهن انتهى. المطلوب تصفية المصارف غير القابلة للحياة، دمج أخرى، زيادة الرساميل، وفرض حوكمة صارمة. أي نموذج آخر هو مجرد إحياء مصطنع لجثة مالية.
3. إعادة تعريف وظيفة مصرف لبنان داخل الدولة
المصرف المركزي يجب أن يعود إلى دوره الطبيعي:
استقرار نقدي، استقلالية فعلية، ميزانيات شفافة، ورقابة خارجية مؤسسية.
أما دور “المموّل السياسي” فقد انتهى ويجب أن يُدفن مع النموذج السابق.
4. إصلاح المالية العامة جذريًا لا تجميليًا
لا يمكن لبلد أن ينهض وفي داخله حفرة تبتلع نصف موازنته اسمها “الكهرباء”، وقطاع عام مترهّل، ونظام ضريبي غير عادل. الإصلاح المالي هو أساس الإصلاح الاقتصادي، ومن دونه لا اتفاق مع صندوق النقد ولا عودة للاستثمارات.
5. توقيع اتفاق نهائي مع صندوق النقد كإطار التزام لا كشرط خارجي
الاتفاق ليس عقوبة بل خارطة طريق لإعادة الثقة. من دونه ستبقى كل الخطط الداخلية حبرًا على ورق، وستبقى الليرة رهينة الفوضى.
6. بناء بيئة مالية جديدة تحت سقف معايير FATF
لبنان يحتاج إلى التزام صارم بمعايير مكافحة تبييض الأموال، وتفعيل جهاز رقابي مستقل، وسدّ الثغرات التشريعية التي جعلت النظام المالي ساحة مفتوحة للفساد والتحويلات المجهولة.
اخيراً… إنّ مستقبل لبنان لن يُكتب بتصفية حسابات سياسية مع رياض سلامة، ولا بتحميل شخص واحد وزر انهيار صنعته منظومة كاملة.
المستقبل يُكتب بقرار واضح:
إما ندفن النموذج الذي سقط، أو نعيد تدويره فيسقط مجددًا على رؤوس اللبنانيين.
القطيعة المطلوبة ليست ضد سلامة فقط، بل ضد المنهج الذي جعله ممكنًا:
منهج الاقتصاد الريعي، والإنفاق السياسي، والهندسات التي تُخفي الخسائر، والزعامات التي تعطل الإصلاح.
فإذا لم تتشكّل إرادة سياسية جريئة تعيد بناء الدولة على قواعد إنتاج لا محسوبيات، وشفافية لا تسويات، فإنّ كل التقارير والتدقيقات والاتهامات ستبقى تفاصيل في مشهد أكبر:
بلد يكرر سقوطه… لأنه يخاف من ولادته الجديدة.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية