كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
استقر الذهب قرب مستوى 4250 دولارًا صباح اليوم الاثنين، متحدّثًا بلغة الأسواق قبل أن تتحدث البيانات، ومُظهِرًا قوة استثنائية في حركة سعرية تتزامن مع بداية شهر جديد ومرحلة حساسة من دورة السياسة النقدية الأمريكية.
ومن وجهة نظري، فإن المشهد الحالي لا يعكس ارتفاعًا عابرًا بقدر ما يشير إلى إعادة تموضع استراتيجي من جانب المستثمرين تحسبًا لمرحلة أكثر مرونة في السياسة النقدية خلال الأسابيع المقبلة. فالتداول قرب أعلى مستوى في ستة أسابيع ليس مجرد دلالة على زخم شرائي قوي، بل يعكس قناعة متزايدة بأن الذهب يدخل مرحلة تسعير مسبّق لخفض أسعار الفائدة المتوقع من مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يغيّر ملامح الاتجاه العام للسوق خلال الربع القادم.
كما إن ضعف الدولار الأمريكي على نطاق واسع يقدّم دعامة محورية لهذا الارتفاع، ويُشكِّل من الناحية الفنية والأساسية عنصرًا لا يمكن تجاهله في تفسير استقرار الذهب فوق مستويات حساسة، وتتوقع الأسواق بنسبة 87% قيام الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة بواقع 25 نقطة أساس في اجتماع ديسمبر، وهذه التوقعات برأيي لا تعكس أمراً استثنائياً بقدر ما تعبّر عن انسجام بين المعطيات الاقتصادية والتوجهات السياسية.
والمؤشرات الاقتصادية الأخيرة تُظهر تباطؤًا واضحًا، والتضخم في مسار هبوطي، والتوترات السياسية داخل أروقة الإدارة الأمريكية تزيد من صعوبة الإبقاء على سياسة نقدية متشددة. لذلك، فإن الضعف الراهن للدولار ليس مؤقتًا، بل يأتي في سياق تحوّل عميق في توقعات السياسة النقدية.
وقد شهد الدولار أسوأ أسبوع له خلال أربعة أشهر، في ظل بحث المستثمرين عن ملاذات آمنة أو بدائل تحافظ على قيمتها في بيئة يتقلص فيها العائد الحقيقي على الأصول المقومة بالدولار. ومن وجهة نظري، فإن هذه النقطة تمثل جوهر القوة الحالية للذهب. فعندما يستقر الدولار في مسار هبوطي هادئ ولكنه مستمر، يصبح الذهب أكثر جاذبية حتى بالنسبة للمستثمرين الذين لا يفضلون أخذ مراكز مرتفعة المخاطر. وهذا ما يفسر لماذا يتجه المتفائلون بالذهب الآن نحو استهداف مستوى 4300 دولار، إذ يرون أن هذا المستوى ليس فقط قابلًا للتحقق، بل منطقيًا في ظل تراجع العملة الأمريكية وعوائد السندات.
ويزداد المشهد تعقيدًا بإضافة البُعد السياسي لمسألة اختيار رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي المقبل. فقد ذكرت وكالة رويترز أن المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض كيفن هاسيت هو المرشح الأوفر حظًا لتولي المنصب، بينما أشار وزير الخزانة سكوت بيسنت إلى أن الرئيس ترامب قد يعلن قراره قبل عيد الميلاد.
ومن وجهة نظري، فإن الأسواق عادة ما تتفاعل بقوة مع أي إشارات تتعلق بالسياسة النقدية المستقبلية، وتحديد هوية رئيس الاحتياطي الفيدرالي يمثل عنصرًا جوهريًا في تكوين هذه التوقعات. فإذا تم اختيار شخصية معروفة بميولها التيسيرية، فقد يستبق المستثمرون الأمر بضخ المزيد من السيولة في الذهب، باعتباره المستفيد الأكبر من أي دورة تيسير مطولة.
وبالتوازي مع ذلك، يترقب المستثمرون بيانات مؤشر مديري المشتريات التصنيعي الأمريكي الصادر عن معهد إدارة التوريد (ISM) لشهر نوفمبر، والمتوقع أن ينخفض إلى 48.6 نقطة من 48.7. ورغم أن هذا التراجع يبدو محدودًا، إلا أن المعنى الاقتصادي له كبير. فمن وجهة نظري، فإن بقاء المؤشر دون مستوى 50 لفترة طويلة يعكس انكماشًا فعليًا في القطاع، وهو ما يضغط على صناع القرار في الاحتياطي الفيدرالي لاتخاذ خطوات داعمة للنمو. وعليه، فإن أي تأكيد جديد على انكماش قطاع التصنيع قد يعزز مسار خفض الفائدة ويزيد من الضغط على الدولار، وهو ما قد يفتح الباب أمام الذهب للتحرك بثبات نحو 4300 دولار وربما تجاوزه.
ومن المرجح أن يؤدي أي ضعف إضافي في بيانات التصنيع إلى ترسيخ التوقعات بخفض الفائدة، خصوصًا أن الأسواق باتت حساسة للغاية تجاه أي بيانات تتعلق بالنشاط الاقتصادي الحقيقي. ومن وجهة نظري، فإن الذهب في هذه المرحلة لا يتحرك فقط بحسب التطورات الاقتصادية، بل أيضاً وفق حالة عدم اليقين السياسي وتوقعات السياسة النقدية طويلة الأجل، مما يمنحه مجالًا أوسع للصعود مقارنة بفترات سابقة.
وخلال نهاية الأسبوع الجاري، سيجد المستثمرون أنفسهم أمام سيل من البيانات الأمريكية الحيوية: مؤشر التغير في التوظيف ADP، مؤشر الخدمات ISM، طلبات البطالة الأسبوعية، ومؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسية (PCE)، وهو المقياس المفضل للاحتياطي الفيدرالي لقياس التضخم. ومن وجهة نظري، فإن أي إشارات على تباطؤ سوق العمل أو انخفاض الضغوط التضخمية ستعزز الضغوط على الاحتياطي الفيدرالي لخفض الفائدة، وهو ما يعني استمرار الضغط على الدولار وفتح مزيد من المساحات الصعودية للذهب قبل اجتماع الفيدرالي القادم.
وفي المجمل، أرى أن الذهب يدخل مرحلة حاسمة قد تحدد مساره للربع الأول من العام القادم. فإذا نجح في تسجيل إغلاق يومي قوي فوق 4250 دولارًا واستقراره، فإن هذا قد يمثل نقطة انطلاق جديدة تمنح المشترين الثقة اللازمة لاستهداف مستويات أعلى. أما إذا جاءت البيانات الأمريكية مفاجئة بقوة لصالح الدولار، فقد يشهد الذهب بعض التقلبات، لكنها من وجهة نظري لن تغيّر الاتجاه الصاعد الأكبر ما دام الاحتياطي الفيدرالي يتجه نحو خفض الفائدة.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية