كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com – منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
يشير الارتداد الذي شهده مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بعد أربعة أيام من الخسائر ليتداول عند 6774 نقطة إلى أكثر من مجرد حركة فنية قصيرة الأجل، بل يعكس من وجهة نظري تحوّلًا تدريجيًا في مزاج المستثمرين تجاه مسار الاقتصاد الأمريكي والسياسة النقدية في المرحلة المقبلة. فالأسواق لا تتحرك فقط بالأرقام المجردة، بل بتوقعات المستقبل، وبيانات التضخم الأخيرة، ورغم كل الملاحظات المنهجية حولها، أعادت إحياء سيناريو طال انتظاره يتمثل في اقتراب نهاية دورة التشديد النقدي وبداية التفكير الجدي في خفض أسعار الفائدة خلال عام 2026، وهو ما يُعد عامل دعم جوهري لتقييمات الأسهم.
وانخفاض التضخم السنوي الرئيسي إلى 2.7% والتضخم الأساسي إلى 2.6%، أقل من توقعات الأسواق، يحمل دلالة نفسية مهمة حتى لو افتقد التقرير لبعض البيانات الكاملة نتيجة إغلاق الحكومة. وبرأيي، السوق لم يتعامل مع هذه الأرقام بوصفها قراءة مثالية، بل باعتبارها إشارة اتجاه. فحتى مع التحفظات المتعلقة بتضخم الإسكان أو غياب المقارنة مع أكتوبر، فإن الرسالة الأساسية التي تلقاها المستثمرون هي أن الضغوط التضخمية لم تعد خارجة عن السيطرة، وأن ذروة التضخم أصبحت خلفنا على الأرجح، وهو ما يخفف من احتمالات تشديد إضافي غير متوقع من الاحتياطي الفيدرالي.
لذا أرى أن رد فعل السوق الإيجابي لم يكن مبالغًا فيه، بل متسقًا مع منطق استثماري طويل الأجل. ارتفاع ستاندرد آند بورز 500 وناسداك وداو جونز في جلسة واحدة يعكس عودة شهية المخاطرة تدريجيًا، لا سيما في أسهم النمو التي تعرضت لضغوط ملحوظة خلال الشهرين الماضيين. وهذا السلوك يتكرر تاريخيًا عندما تبدأ الأسواق في استباق التحول في السياسة النقدية، حتى قبل أن يعلن البنك المركزي ذلك صراحة. المستثمر الذكي لا ينتظر القرار، بل يقرأ ما بين السطور.
ومن وجهة نظري، العامل الحاسم في جلسة الارتفاع لم يكن التضخم وحده، بل التقاء هذا العامل مع نتائج قوية من قطاع أشباه الموصلات، وتحديدًا شركة مايكرون. القفزة الحادة في سهم الشركة أعادت تسليط الضوء على حقيقة غالبًا ما يتم تجاهلها خلال فترات التصحيح، وهي أن الطلب الهيكلي على تقنيات الذكاء الاصطناعي وبناء مراكز البيانات لا يزال قويًا، وربما في مراحله الأولى. ما شهدناه من تراجع سابق في أسهم التكنولوجيا لم يكن نهاية الاتجاه الصاعد، بل عملية إعادة تسعير وانتقاء.
لذا أعتقد أن ما يحدث حاليًا في قطاع الذكاء الاصطناعي يمثل سوقًا صاعدة صحية أكثر من كونه فقاعة، حيث بدأ المستثمرون بالتمييز بين الشركات القادرة على تحقيق تدفقات نقدية حقيقية وتلك التي تعيش على الوعود. هذا التباين، كما نراه بين مايكرون وبعض الأسماء الأخرى، هو أمر إيجابي على المدى المتوسط، لأنه يعيد الانضباط للتقييمات ويمنح فرصًا استثمارية انتقائية بدل الاندفاع الجماعي غير المحسوب.
وأرى أن تفوق السلع الاستهلاكية غير الأساسية وتكنولوجيا المعلومات يعكس رهان السوق على مرونة المستهلك الأمريكي وقدرته على الإنفاق رغم أسعار الفائدة المرتفعة. قصة شركة تارجت، على سبيل المثال، تقدم نموذجًا مهمًا على كيفية تكيّف شركات التجزئة التقليدية مع أدوات الذكاء الاصطناعي لتعزيز المبيعات والكفاءة. والتقييمات الجذابة نسبيًا لبعض هذه الشركات مقارنة بنظيراتها الكبرى تشير، برأيي، إلى أن الفرص لا تزال قائمة خارج دائرة “الأسهم الضخمة” المعتادة.
وسياسيًا ونقديًا، لا يمكن تجاهل تأثير التصريحات المتعلقة بالاحتياطي الفيدرالي وترشيحات رئاسته المقبلة. الأسواق بطبيعتها تكره الغموض، وأي إشارة إلى استمرارية النهج أو إلى قيادة تتمتع بخبرة داخل النظام تُفسَّر غالبًا على أنها عامل استقرار. فمن وجهة نظري، طالما ظل الخطاب العام يميل إلى دعم النمو دون التساهل المفرط مع التضخم، فإن ذلك سيبقى عنصر دعم للأسهم، حتى وإن استمرت التقلبات قصيرة الأجل.
لذا، أتوقع أن يكون مؤشر ستاندرد آند بورز 500 في مرحلة بناء قاعدة صعودية جديدة، لا في انطلاقة عمودية سريعة، بل في مسار متدرج تحكمه البيانات والأرباح. والتصحيحات ستبقى جزءًا طبيعيًا من المشهد، لكن الاتجاه العام في رأيي يميل إلى الإيجابية خلال عام 2026، خاصة إذا تأكد مسار خفض الفائدة واستمرت أرباح الشركات في مفاجأة التوقعات. والسوق الأمريكي لا يعيش حالة نشوة غير مبررة، بل مرحلة إعادة تسعير عقلانية لاقتصاد يتباطأ دون أن ينكسر، وهذه بيئة غالبًا ما تكافئ المستثمر الصبور والانتقائي.
الدورة الإقتصادية الدورة الإقتصادية