التخطيط المسبق : الحد من الآثار السلبية لفورة إيرادات النفط والغاز في لبنان

بقلم: د.جاد شعبان*

سترون بعد مضي عشر أو عشرين سنة من الآن أنّ النفط سيقضي علينا … النفط صنيعة الشيطان. هذا ما أدلى به خوان بابلو بيريز ألفونسو، أحد مؤسسي منظمة الأوبك، يجسّد هذا التصريح ظاهرة معمّمة تتصل باكتشاف موارد المحروقات، والتي أطلق عليها إسم ‘لعنة الموارد’. هذا المفهوم يربط بين تكثيف استغلال الموارد الطبيعية والاعتماد عليها وبين التراجع المنهجي في القطاعات الإقتصادية الأخرى، سيّما منها الزراعة والصناعة. وفي بلد يعاني من ‘لعنة الموارد’، يتوجَّه الإقتصاد نحو قطاع واحد يستقطب جميع الموارد واليد العاملة واهتمام صانعي السياسات، ما يؤدًّي في نهاية المطاف إلى تراجع الاستثمارات في القطاعات الاقتصاديّة الأخرى. ويزداد خطر هذه الأعراض في البلدان التي تعاني من الوهن الإداري وانتشار الفساد في المؤسّسات، وفي الأنظمة غير الديمقراطيّة، والنُظُم الماليّة الضعيفة. وعلى الرغم من ثرواتها، لاتزال دولٌ شتّى تفيض فيها الموارد، على غرار نيجيريا وأنجولا وتشاد، تعاني من الفقر المستفحل والتقاعسات الإقتصاديّة الواسعة الانتشار. وهذا هو تحديداً الوضع القاتم الَّذي ينبغي للبنان العمل على تفاديه.

من شأن اكتشاف النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية واستخراجهما أن يؤدّيا، في نهاية المطاف، إلى فورة في إيرادات الدولة، ما سيترجم بسهولة إلى سياسة توسعية غير منضبطة في الموازنة إذا ما اقترن بضعف في التخطيط المالي. وإذا ما صُرفت هذه الإيرادات من دون رقابة وتخطيط ملائم، قد يجد لبنان نفسه أمام تدفقات نقديّة كبيرة قلّما تسهم في التنمية الإقتصاديّة. وثمة أسباب كثيرة تدعو إلى القلق من نتيجة مماثلة. لا بد، أولاً، من التذكير أن الحكومة تعمل بدون ميزانيّة صحيحة منذ العام 2005، ومن الإشارة ثانياً، إلى أنّ رقابة البرلمان على الأنشطة الماليّة العامَّة محدودة. إذ أن أكثر من 20 ٪ من إجمالي الإنفاق العام يُحوّل من خلال وكالات حكوميّة وصناديق مستقلّة (مثل مجلس الجنوب، وصندوق المهجّرين، وغيرهما) وهي غير خاضعة في عملها لرقابة البرلمان. ورغم أن قانون النفط والغاز الَّذِي أُقرّ في البرلمان في آب 2010 ينصّ على إنشاء صندوق ثروة سيادي لإدارة هذه الموارد، فقد ترك أمر تحديد تفاصيل هذا الصندوق ومعلّمات الإنفاق لقانون مستقبلي، وأوكل إلى مجلس الوزراء باتّخاذ القرارات المتعلقة بالإنفاق. ونظراً لسجلّ سياسيّينا الحافل بسوء إدارة الإيرادات، تبقى قدرتهم على إدارة إيرادات إضافيّة موضع شكّ كبير.

إلاّ أنّه من الممكن لنا تفادي ‘لعنة الموارد’ إذا ما تمّ تنفيذ التعديلات السياساتيّة الملائمة تماشياً مع تطوير موارد الهيدروكاربون. ويعزى قسم كبير من التجارب الناجحة لعدد من البلدان الغنيّة بالموارد، مثل النرويج، إلى نجاحها في إدارة ثروات الموارد والمخاطر المتّصلة بها. وللحد من آثارها السلبية المحتملة، تتضمّن الإستجابة المثلى للاستفادة من الفورة مجموعة من سياسات الإصلاح تشمل النواحي البنيوية إلى جانب الإصلاح المالي والنقدي وسعر الصرف.

ولا بدّ، عند وضع سياسة مالية للاستجابة للعنة الموارد، من اتّخاذ قرارين رئيسيّين: أولاً، تحديد قيمة صرف ايرادات الموارد الحكومية وماهيتها. وثانياً، تحديد الطريقة الفُضلى لضمان إنفاق إيرادات النفط والغاز بشكل شفاف وفعّال ومنصف. ذلك أنّ اعتماد سياسة ‘تعقيم للإيرادات’، يتمّ من خلالها تجميع إحتياطي العملات الأجنبيّة، يمكن أن يحد من أثر الإنفاق، وبالتالي من ارتفاع سعر صرف العملة. وفي هذا الصدد، على الحكومة أن تقاوم الضغط الَّذِي تتعرّض له لإنفاق كامل الإيرادات الإضافيّة على المدى القصير وتوسيع ميزانيّة النفقات بدون حساب، بل عليها أن تلتزم بادّخار جزء من عائدات الإيرادات هذه لتحقيق زيادة دائمة في الثروة. كما أنه لا بدّ من توخّي الشفافيّة والتكامل في تنفيذ هذه السياسات إذا ما أُريد لها النجاح.

آما بالنسبة إلى طريقة تخصيص الإيرادات غير المتوقّعة، فعلى الحكومة أن تتنبّه إلى عدم إنفاق الثروة بشكل يزيد من الطلب المحلّي المجمّع على السلع والخدمات غير التجاريّة، ما من شأنه أن يؤدّي إلى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي. في هذا الصدد، يتعيّن على الحكومة أن توجّه إنفاقها باتّجاه قطاعات السلع التجاريّة غير المتّصلة بالموارد من خلال الدعم أو من خلال الإستثمار في رأس المال المادّي والبشري لتعزيز الإنتاجيّة في هذه القطاعات.

إلى ذلك، يمكن لهذه الموارد الهيدوكاربونية المكتشفة أن تكون مفيدة في حالة وحيدة تتمثّل بوجود سياسة الطاقة البديلة تفادياً للنفط المستورد العالي الكلفة، ويتضمّن ذلك تجديداً لمرافق إنتاج الطاقة الموجودة، وربط الأنابيب بالمنشآت البريّة والبحريّة، ضمن إطار مُدمج للطلب والإستهلاك، واحترام البيئة والنسيج الحضري الذين يحيطان بمواقع إنتاج الكهرباء. هذه الخطوات ستتسم بالتعقيد وتتطلّب مستوىً معقّداً من التصميم والتنفيذ. ولكن من دون خطة العمل المتكاملة والشاملة هذه، لن يتمكّن لبنان من النجاة من المخاطر الحقيقيّة التي تُسمّى صنيعة الشيطان. فلا أحد يريد لذلك أن يحدث، لا بعد عشر سنوات، ولا بعد عشرين سنة، ولا في أيّ وقتٍ من الأوقات.

 

*أستاذ مساعد في الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، عضو في الجمعية الاقتصادية اللبنانية وزميل باحث في المركز اللبناني للدراسات

x

‎قد يُعجبك أيضاً

السودان كنز افريقيا المدفون .. الحرب وتداعياتها الاقتصادية

بقلم: د. محمود عبدالعال فرّاج قد يبدو من الوهلة الاولي ان عنوان المقال يفتقد للتناسق ...

مدير عام VISA لمنطقة المشرق العربي، ماريو مكاري لـ ” الدورة الإقتصادية:

نوظف الشباب اللبناني للمساهمة في دعم الاقتصاد في منطقة المشرق العربي إنطلاقاً من بيروت *مبادرة ...

فرانسوا أورتالو ماجني، عميد كلية لندن لإدارة الأعمال لـ ” الدورة الاقتصادية”:
أدعو الطلاب اللبنانيين الموهوبين المحتاجين تقديم طلبات الترشيح للاستفادة من منح دراسية شاملة

دعا عميد كلية لندن لإدارة الأعمال، فرانسوا أورتالو ماجني، الطلاب اللبنانيين الموهوبين المحتاجين للدعم المادي ...